السياحي
الشارقة… رئة تتنفس ثقافة وفنًّا
حسن المطروشي
كغيرنا من الفلاحين البسطاء كنا نجمع أجود ما تنتجه حقولنا لنذهب لبيعها في «الساحل» كما كان يقول الأجداد حينها، ويقصدون بذلك «دولة الإمارات العربية المتحدة»، سوق نايف على وجه التحديد.
في الطريق، قبيل الوصول إلى دبي، أشار السائق بيده تجاه اليمين قائلا: «الشارقة من هنا»! كان يعرف الطرقات ويجيد الوصول إلى الأماكن. لذلك كان يعتمد عليه الفلاحون في أسفارهم تجاه الإمارات، مثلما يعتمد البحارة على الربان الماهر لعبور المحيطات المترامية.
بقيت صورة الشارقة، منذ ذلك الحين، محفورة في يمين القلب، حتى أواخر ثمانينات القرن المنصرم، حينما مررت باللوحة التي تشير إلى «الشارقة»، على الطريق المؤدي إلى دبي أيضا، برفقة بعض الأقران هذه المرة. قلت في نفسي: «سأزورها يوما ما».
في عام 2003م جاءتني فرصة زيارة الشارقة على طبق من محبة، حيث تلقيت دعوة من دائرة الثقافة بالشارقة للمشاركة في مهرجان الشارقة للشعر العربي. كانت تلك فاتحة للزيارات التي توالت بعدها، كان آخرها هذا العام، مشاركا أيضا في مهرجان الشارقة للشعر العربي في دورته السابعة عشرة.
مدينة ترافق العابرين
الشارقة إمارة وديعة يألفها الزائر ويتوحد بها روحا وعاطفة. إنها مدينة تحتضن زوارها وترافق العابرين إلى مفارق الحلم. تغمرك بسكينة عميقة رغم صخب الحياة وزحف التمدن في بقاعها جميعا. فهي ما زالت تتمسك بروحها وعمقها الحضاري وتتشبث بالتاريخ بكل عنفوان. إنها مدينة ترفض الاختطاف والاقتلاع من جذورها الضاربة في ذاكرة الزمن. تنحني بكبرياء الحكماء أمام الريح كي تمر، ولكنها ترفض السقوط والانكسار.
في زيارتي الأخيرة، كنت أتوق للتجول في طرقات الشارقة، لاكتشاف أكبر قدر من مفاتن هذه المدينة ودهشتها. وكانت الفرصة مواتية جدا عندما عقدت اتفاقا للتجول مع الصديق الشاعر الإماراتي النبيل حسن النجار. إن أجمل الشوارع ما تقطعها في الحديث عن الشعر والذكريات. لقد كانت رحلة فاتنة مليئة بالفرح والحديث وتبادل اللواعج والثرثرات والقهقهات الساخرة في كثير من الأحيان.
عند منتصف النهار خرجنا من فندق الشيراتون، الذي يقع في أطراف الشارقة بمحاذاة إمارة عجمان. سلكنا شارع الكورنيش باتجاه أعماق المدينة. ثمة أعمال إنشائية حثيثة تجري على كتف الشاطئ بهدف استغلاله وتحديثه. دلفنا إلى قلب المدينة مرورا بخور الشارقة المتصل بالبحر، حيث توقفنا قليلا لالتقاط الصور عند الخور، ثم عرجنا إلى متحف الشارقة للحضارة الإسلامية، الذي يطل مباشرة على الخور المائي، لنمضي باتجاه بحيرة خالد والسوق المركزي، عودا إلى سوق الشناصية العتيق. وفي كل خطوة نمشيها تتراءى أمامي بعض الأماكن والصروح التي كنت قد زرتها في زيارات سابقة للشارقة، وما زالت تفاصيلها عالقة في الذهن، لاسيما المعالم الحضارية والثقافية والتاريخية التي تتميز بها الشارقة.
متحف الحضارة الإسلامية
أول ما واجهنا من المعالم السياحية في جولتنا متحف الشارقة للحضارة الإسلامية، الذي يعد أحد الصروح الحضارية البارزة في المدينة، وهو واجهة مشرقة للمدينة. يقع المتحف على الطريق الساحلي المطل على ضفة خور الشارقة. وهو عبارة عن مبنى مهيب فخم يتميز بهندسة المعمارية الإسلامية، بفسيفسائه ورخامه وأعمدته وأقواسه الداخلية البديعة. وهو يتكون من مبنيين سفلي وعلوي.
يحتوي المتحف على سبعة معارض دائمة تتمثل في «صالة أبو بكر للعقيدة الإسلامية» و«صالة ابن الهيثم للعلوم والتكنولوجيا» و«صالة الفنون الإسلامية 1» و«صالة الفنون الإسلامية 2» و«صالتي الفنون الإسلامية 3-4» و«معرض المسكوكات» و«صالة المجرة للمعارض المؤقتة»، إلى جانب ممرات المتحف. كما يحتوي المتحف في مبناه السفلي على مقهى للزوار بالإضافة إلى مكتبة تضم العديد من الإصدارات التي تعنى بالتاريخ والحضارة، لخدمة الزائر وتقديم معلومات إضافية للراغبين في البحث والمعرفة.
بحيرة خالد
ونواصل مسيرنا عبر الكورنيش لنصل إلى بحيرة خالد، هذه البحيرة الاصطناعية المتفرعة من الخور، التي تبلغ مساحتها 1720000 هكتار مربع، يحيط بها شارع كورنيش البحيرة الذي يضم مساحات معشبة تزين المكان بنخيلها الباسقة ولمستها الخضراء، وتضم الأماكن المخصصة للجلوس والمشي. تتوسط البحيرة نافورة هائلة تعد ثالث أكبر نوافير العالم بعد نافورتي جدة وسويسرا.
بمحاذاة البحيرة تقع منطقة المجاز التي تشتهر بفعالياتها الفنية والثقافية ومقوماتها السياحية العديدة. كما يطل على البحيرة جامع النور بقبابه ذات التصميم العثماني الأنيق، إلى جانب جامع عبدالله بن عباس. كما تقع على ضفاف البحيرة الأسواق والمحلات التجارية أبرزها سوق الشارقة المركزي بتصميمه التراثي الرائع.
أسراب الحمام والنوارس ترفرف في أجواء المكان بسلام يعكس سكينة المدينة وخشوعها الذي يشبه خشوع النساك في خلواتهم العظيمة!
سوق الشناصية
ويتواصل التجوال برفقة الشاعر حسن النجار، الذي يقترح عليَّ زيارة «سوق الشناصية» الذي يقع في قلب الشارقة العتيقة، وتعود تسميته، على الأرجح، إلى التجار الذين كانوا يأتون إليه من ولاية شناص العمانية، ويقدر عمره بقرابة مائتي عام. وقد ساهمت أعمال الحفريات والتنقيب للمرحلة الأولى لتطوير مشروع قلب الشارقة، التي تنفذها هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير (شروق)، بعد إجراء المسح الجيوفيزيائي للمنطقة، في الكشف عن أساس سوق الشناصية القديم. وقد جرت أعمال الترميم وإعادة بناء السوق على أساساته الأصلية، من أجل الحفاظ على هوية المكان وصونه وعدم تشويه معالمه.
السوق يطل في واجهته على خور الشارقة، ورغم مظاهر الحداثة والتمدن والمباني العملاقة التي تحيط به من كل الجهات، فإنه مازال يقف بكبرياء التاريخ بين البنايات الكبيرة والأسواق الضخمة، مضمخا بروائحه العتيقة التي تجلب الكثير من الذكريات والحنين وأصوات الذين كانوا هنا في زمنهم الجميل. وما زال السوق يقدم بضائعه التقليدية التي لا تجدها إلا هنا، إلى جانب بعض المقاهي والمحلات التي تجد فيها لمسة من الحداثة الحذرة.
هيئة الشارقة للوثائق والأرشيف
وعلى شارع الكورنيش أيضا، تقع هيئة الشارقة للوثائق والأرشيف، مطلة بمنظرها المهيب على بحيرة خالد. ويمكن لزائر هذا الصرح الحضاري الاطلاع على كنوزه التاريخية الهائلة والأساليب الحديثة المتبعة في حفظ وصيانة هذه الوثائق والنفائس التي لا تقدر بثمن.
تتكون الهيئة من إدارتين تتفرع عنهما باقي الأقسام والأفرع التي تتولى تنفيذ مهامها وتحقيق أهدافها ممثلة في توحيد وتطبيق نظام إدارة الوثائق والأرشيف للجهات الحكومية في إمارة الشارقة، وفقًا للمعايير العالمية. وجمع أرصدة أرشيف إمارة الشارقة، والدولة، وحفظها، وإتاحتها للمجتمع. إلى جانب تأهيل الكوادر البشرية، وتوفير بيئة عمل سعيدة ومبتكرة ومحفزة. وريادة تقديم الخدمات، وفق معايير الجودة والكفاءة والشفافية. بالإضافة إلى تعزيز مجالات التعاون مع الجهات الحكومية، والشركاء الأستراتيجيين، والمجتمع لتنمية مستدامة. ونشر وترسيخ الوعي المعلوماتي الأرشيفي والتاريخي للمجتمع.
وتمثّل الهيئة السّلطة المحليّة المختصّة بشؤون الوثائق والأرشفة، وتلتزم أفضل المعايير العالمية في حفظ الوثائق وأرشفتها، وتعمل على نشر وترسيخ الوعي الثقافي والتاريخي وتشجيع البحث العلمي والإبداع الفكري والفني، وتسهم في تقدم الحضارة الإنسانية ورفعة رسالته.
مدينة جامعية
من المعالم الحضارية والثقافية المهمة في مدينة الشارقة أيضا المدينة الجامعية التي تبعد 13 كيلو مترا عن مركز المدينة. وتضم هذه المدينة مجموعة واسعة من مؤسسات التعليم العالي مثل جامعة الشارقة، والجامعة الأمريكية وكليات التقنية العليا والجامعة القاسمية وأكاديمية شرطة الشارقة ومعهد الشارقة للتكنولوجيا ومكتبة الشارقة وقاعة المدينة الجامعية، إلى جانب مستشفى الشارقة التعليمي.
مدينة للنشر
في إطار المساعي والأهداف الرامية إلى جعل الشارقة مدينة ثقافية على المستويين العربي والعالمي أنشئت «مدينة الشارقة للنشر» عام 2017م، التي أعد لها لتعمل كمنطقة حرّة لخدمة قطاع النشر والطباعة. وتقدم هذه المدينة حزمة واسعة من الخدمات تشتمل على أعمال التأليف والتصميم والنشر والطباعة والتخزين والتوزيع، تدعمها منظومة متكاملة من من أحدث التقنيات والوسائل التي تشكل البيئة الأساسية التي يطمح لها الناشر وتسهل مهمة النشر والتوزيع، بما تقدمه من التسهيلات والمزايا للناشر من أهمها الإعفاء التام من الضرائب ونظام الملكية التجارية التامة، إلى جانب عدم وجود قيود على العملة، يضاف إليها مجموعة متكاملة من الأنشطة التجارية المتعلقة بقطاع النشر والطباعة، إلى جانب إصدار الرخص للشركات الحديثة والشركات التابعة والفروع، ومجموعة واسعة من المرافق والمكاتب المفروشة وغير المفروشة ومساحات التخزين، ومنظومة متكاملة من الأنشطة التجارية المتعلقة بقطاع النشر والطباعة بنظام الأوفست والطباعة حسب الطلب، ونافذة واحدة تشمل أعمال تسجيل وترخيص الشركات والخدمات الحكومية، إلى جانب موقع مميز يتيح سهولة الوصول لكافة الإمارات الأخرى ودول مجلس التعاون الخليجي والتواجد على مقربة من الموانئ البحرية والجوية، ونظام بيئي متكامل مدعوم من قِبَل الحكومة ومُصمم خصيصًا بهدف ازدهار قطاع الطباعة والنشر.
مكتبة عامة
تمثل مكتبة الشارقة العامة أحد المعالم البارزة في المدينة، وهي تشكل وجهة حضارية مهمّة نظرا لما تقدمه من الخدمات الاجتماعية، بما توفره من كنوز المعرفة والكتب والإصدارات القديمة والجديدة بأنواعها.
توفر المكتبة فضاء مثاليا لمحبي القراءة، كما تعمل بنظام مرن للإعارة، وتقدم خدماتها إلكترونيا، بالإضافة إلى تنظيم الفعاليات وورش العمل لكافة الأعمار، لاسيما فئة الأطفال.
وتتوخى المكتبة عدة أهداف استراتيجية تربوية وثقافية ومعلوماتية وترويجية. ومن أجل تحقيق أهدافها تعتمد المكتبة برنامج عمل يشتمل على اقتناء الكتب والمراجع والدوريات والرسائل العلمية، وغيرها من أوعية المعلومات التي تفيد الباحثين، وإعداد الفهارس اللازمة لتيسر الوصول إلى المقتنيات، وإصدار القوائم الببليوجرافية، والكشافات اللازمة، إلى جانب تيسير الحصول على المقالات والبحوث من مراجع، ودوريات، وكتب، وتقديم خدمات الوسائل السمعية والبصرية، إلى جانب تقديم خدمات البحث في الفهرس الآلي، والشبكة العنكبوتية.
المتاحف .. ذاكرة المكان
تنتشر في الشارقة العديد من المعالم الأثرية والمتاحف التي تقع تحت إدارة الشارقة ومنها متحف الشارقة للحضارة الإسلامية، ومتحف مدرسة الإصلاح، متحف المحطة، ومتحف بيت النابودة، وبيت الشيخ سعيد بن حمد القاسمي، ومتحف مجلس المدفع، ومربى الشارقة للأحياء المائية، ومتحف الشارقة للآثار، ومتحف الشارقة للفنون، ومتحف الشارقة للخط، ومتحف الشارقة للسيارات القديمة، ومركز الشارقة للاستكشاف، ومتحف الشارقة للتراث، ومتحف حصن الشارقة، ومتحف الشارقة البحري، ومتحف الشارقة العلمي.