الفني

رحلة الأوبرا من البندقية إلى مسقط يرويها معرض «متحف فكتوريا والبرت»

استمعت إلى رحلة «الأوبرا»:
شيخة الشحية

 

هي رحلة الأوبرا، منذ ما قبل منتصف القرن السابع عشر وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين، رحلة فن جديد اخترعته البندقية الباحثة عن نوع مختلف من الترفيه، ووصولا إلى مسقط، المؤكدة على اعتناء المقام السامي بالفنون الموسيقية، وتأتي الأوبرا كأكثر نجمة مضيئة في سماء الإبداع الغنائي البشري.
معرض «متحف فكتوريا والبرت» الذي استضافته دار الأوبرا السلطانية بمسقط يروي الحكاية، عناوين مدهشة لقامات فنية جابت بقاع الأرض، هاندل، فيردي، موزارت، وغيرهم الكثير ممن وضعوا سلالم الموسيقى نغما أرضيا يصعد إلى فضاءات مدهشة في الوعي الإنساني.
البندقية.. وتتويج بوبيا
البداية كانت من البندقية، أوبرا «تتويج بوبيا»، يشير الزمن إلى عام 1642 حيث يبدأ المعرض بسرد الحكاية مع مدينة البندقية، من خلال مجموعة معروضات تتمثل في قطع زجاجية ثمينة إضافة إلى مجموعة من الآلات الموسيقية الغربية ومشط متقن منحوت يدويًّا من قطعة واحدة من خشب البقس، مجموعة معروضات تدلل على نمط حياة رجال ونساء مدينة البندقية في القرن السابع عشر.
وعلى يد كلاوديو مونتيفيردي ولدت أول أوبرا عامة حملت عنوان «تتويج بوبيا»، بوبيا التي يعود إليها صديقها أوتوني بعد غياب طويل على حلم أن تتزوج منه فتصبح الإمبراطورة، وتشير المعلومات إلى ما تضمنته تلك الأوبرا من توزيعات الفرق الموسيقية في القرن السابع عشر بإستخدام آلات مثل الهاربسيكورد والعود الأوروبي وأحيانًا آلات نفخ، ومن ملاحظة آلة الثيوربو فإن هناك شبهًا بينها والعود العربي، بما اعتبر دليلا قويا على امتزاج الثقافات بين الشرق والغرب على مر التاريخ.
وتشير المعلومات إلى أن آلات الهاربسيكورد استخدمت في عروض الأوبرا الأولى لعزف الصوت المصاحب، وعازفها يقوم أيضا بمهام قائد الأوركسترا.
لقد مثلت أوبرا «تتويج بوبيا» نقطة انطلاقة محورية كوسيلة ترفيهية رائجة، وعمل مديرو المسارح على ابتكار هذا الفن الجديد بجمعهم بين عناصره المختلفة من قصة وإخراج مسرحي وغناء وموسيقى، إضافة إلى كونها أول أوبرا تتناول أحداثا تاريخية فعلية وليس موضوعا دينيا أو اسطوريا، فعكست ما كان من أسلوب حياة منحلة سائد في البندقية إضافة إلى اختيار موضوع معاد للرومان لإرضاء جاهير المدينة.

رينالدو.. في لندن
يصل المعرض إلى لندن، وتشير لوحة الزمن إلى عام 1711، حيث حمى عروض الأوبرا تنتشر في جميع أنحاء أوروبا، وكانت لندن تعرف مرحلة استقرار مع تولي الحكم الملكة آن، بعد فترة اضطرابات وحروب أهلية وصراعات طاحنة بين البورتسانت والكاثوريك..
تتوقف عربة المعرض في لندن للحديث عن موسيقار ترك أثرا في عاصمة الضباب، إنه جورج فريدريك هاندل الذي عاش في الفترة ما بين (1685م – 1759م)، حين قدم ذلك الشاب أول أوبرا غنائية باللغة الإيطالية في عاصمة الضباب، التي عرفت بأنها مركز تجاري عالمي، حمل العرض عنوان «رينالدو»، وفي المعرض قدم نموذج العرض المستوحى من عرض رينالدو الأصلي، الذي اعتمد على تقديم مؤثرات بصرية ساحرة مثل نيران ومياه وطيور حقيقية أبهرت الجماهير التي كانت محظوظة بذلك الانسجام بين هنادل ومدير مسرح آرون هيل مع الفنان الإيطالي جياكومو الذي صمم مسرحا تاريخيا، فتحولت الأوبرا على أيديهم إلى وسيلة ترفيه رائجة في القرن الثامن عشر، الذي شهد تكيف لندن مع أسلوب الموسيقى المستوحى من الطراز الأوروبي، رغم الانتقاد الإعلامي، وردود الأفعال النقدية القوية من صحافة لندن المتخوّفة من هذا النوع الفني الأجنبي ناظرة إلى الأوبرا الأوروبية بوصفها تهديدا، حيث إن عرض «رينالدو» كان أول أوبرا غنائية باللغة الإيطالية في المدينة.

فيينا: زواج فيجارو مع موتسارت
كانت فيينا «مدينة التنوير ومنصة انطلاق وازدهار الأفكار والإلهامات الجديدة»، فانطلق موتسارت» (1756مـ 1791م) يغرف من تلك الحياة الجديدة، مختارا شخصياته من الحياة اليومية، فوضع أوبرا «زواج فيجارو» 1786م في فيينا كعرض فكاهي، معتمدا على أفكار مأخودة من مسرحية بومارشيه الأصلية لتقديم الخدم كأشخاص طموحين مساوين أو منافسين للأرستقراطيين، وقادرين على حل مشاكلهم، وهي الرسالة التي طبقها موتسارت على نفسه حينما استغل الموضع ومعرفته بالصالونات الثقافية ليرفع نفسه اجتماعيا، وكان ثوريا في التعامل مع الخدم الذين منحهم دورا محوريا في هذا العرض الأوبرالي بعد أن كانوا يقومون بأدوار سخيفة لإضحاك الجماهير.
وعبر المعروضات ندرك كيف كانت ملابس الرجال الرسمية في ثمانينيات القرن الثامن عشر، إضافة إلى وجود نموذج لآلة البيانو التي تعود إلى عام 1788 مشابهة للآلة التي عزف عليها موتسارت.
وتشير المعلومات المعروضة إلى أن المجتمع في تلك الفترة يعتبر المؤلفين الموسيقيين ضمن الخدم المهرة الذين يخدمون الكنيسة أو البلاط، لكن موتسارت وجد حرية أكبر في فيينا لما منحته عبقريته من فرصة الوصول إلى أهم الشخصيات المؤثرة فيها، وكافح لينال القبول، وبموهبته حقق نجاحا لافتا.
وضمن المعروضات توجد مسودة جزء من أغنية «كيروبينو» في الفصل الأول «لم أعد أعرف من أنا» ويظهر في المسودة التي ألفها موتسارت كيف اعتاد تأليف سطر الموسيقى الغنائية أولا، المرتبط بسطر الباص، قبل أن يضيف الآلات الموسيقية المختلف، ويمكن رؤية سطر الكمان والفيولا في المدونة، علما أن موتسارت كان يؤلف الموسيقى غالبا في الصباح وفي بداية المساء، ليترك بقية يومه متاحا لتدريس الموسيقى أو للأنشطة الاجتماعية.
ميلان وفيردي:
حلقي أيتها الأفكار
تصل المحطة التالية إلى ميلانو، والزمن يشير إلى عام 1942م، ووسط ظروف صعبة، وبلد ممزق، استقر فيردي (1813م -1901م) في ميلانو، باعتبارها العاصمة الثقافية لشمال ايطاليا، وكونها مركزا للأوبرا، مستمدا منها الإلهام لكتابة أوبرا «نابوكو» المستمدة من قصة تحمل ذات الاسم، كانت قوية بما تتضمنه من موضوعات تعبر عن البلاد في تلك الفترة، ثلاثية «الهوية والوطنية والحرب» لتحقق أوبرا «نابوكو» نجاحًا غير مسبوق، مرسخة اسم فيردي عالميا بما حوله إلى أسطورة وطنية، حتى انه عندما توفي عام 1901 خرج في جنازته العامة نحو ربع مليون شخص إلى الشوارع يغنون «حلقي أيتها الأفكار».
وعبر التجوال في المعرض يتعرف الزوار على ما قدمه فيردي من نجاحات، إضافة إلى معايشة تجربة المسرح مع جوقة الأوبرا الملكية في لندن، والاستماع إلى «حلقي أيتها الأفكار» التي تعد النشيد الوطني غير الرسمي في إيطاليا، حيث يجتمع فيها، كسائر مؤلفاته الموسيقية الانسجام والتناغم. وكانت تضم نحو 150 دار أوبرا، ليكون هذا اللون الفني الصوت الجماعي للجمهورية الجديدة، حيث كانت الأوبرا الموسيقى الرائجة التي وحدت إيطاليا.
باريس:
فاجنر في عاصمة الثقافة
كان الموسيقار ريتشارد فاجنر (1813م – 1883م) العنوان العريض لما يقدمه المعرض عن باريس ستينيات القرن التاسع عشر، حينما كانت عاصمة للثقافة على مستوى العالم، المدينة الجاذبة للفنون والآداب، وكان الفن الأوبرالي فن النخبة الاستقراطية التي كانت تدفع مبالغ باهظة لتحجز مقصورة في دار الأوبرا من أجل الاختلاط بالمجتمع الراقي.
في تلك الفترة قدم ريتشارد فاجنر العرض الأول لأوبرا «تانهويزر» التي استطاعت أن تستقطب الجماهير الفرنسية بما وجدته من تعبير عن المدينة حينئذ، ويقدم المعرض مجموعة مقتنيات من ذلك الزمن الباريسي الباذخ، وعلى شاشة عرض يمكن التعرف على نموذج لثوب ارتدته زوجة نابليون الثالث الإمبراطورة أوجيني.

مسقط:
وصولا مع بوتشيني
يصل الزمن الأوبرالي إلى مسقط، في الثاني عشر من أكتوبر من عام 2011 حيث افتتح جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم دار الأوبرا السلطانية لتجسد ميلادًا جديدًا للثقافة والفنون في عمان، وعلى هذه «الجوهرة الثقافية»، كما وصفها المايسترو بلاسيدو دومينجو قائد أوركسترا العرض الافتتاحي، قدمت مؤسسة «أرينا دي فيرونا» أوبرا «توراندوت» لجياكومو بوتشيني (1858م – 1924م) من إخراج فرانكو زفيريللي، ومع تلك الأنغام يمضي التجوال، حيث حضور نماذج من التصاميم والأزياء التي قدمت في ذلك العرض، مع مجموعة من الصور للدار.
وحينما كانت خاتمة الحكاية على وشك الوصول إلى آخر نقطة مضيئة في المعرض بدت مجموعة معروضات تصر على أن الحكاية لا تنتهي، نموذج جميل للباس التي ترتديه عازفات الأوركسترا السلطانية العمانية، مع آلة «هاربسيكورد، التي تحمل نقشا خاصا اختاره صاحب الجلالة لعبارة تعني «الموسيقى رفيق في الفرح ودواء للألم».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق