النصوص

رسائل من بيوت مهجورة

من كتاب(صانع النهايات)

أول ما باغت عزيزة لمَّا دخلت بيت طفولتها الذي أتم عامه الخامس عشر مهجورًا، طائفٌ من الخيال، مثَّل لها البيتَ مخلوقًا مغلوبًا وحيدًا يعيش في الفراغ.

كان البيت في بنائه من الطراز القديم، يطبع في النفس طعمًا من العتاقة. كان من تلك البيوت القديمة الكبيرة التي تبعث إحساسًا بالألفة العائلية من مجرد النظر إليها.

لا شك أن عزيزة باغتها كذلك فيما باغتها، فيضٌ من الذكريات، فمن ذا الذي يزور بيت طفولته ويكون له قلبٌ حجري، فلا تبدو له الأيام الخالية، ولا يستذكر ساعاتها؟

كانت عزيزة تدخله مثل زائرة لم تسقط الكلفة بينها وصاحب البيت، فما زالت تتحرَّج مع كل كلمة تبعثها الذكريات. قالت أمها وهي تدخل معها وتنظر أثر خطواتها فوق الغبار: أنتم المسؤولون! أنتم من خرَّب البيت!

وفكرت عزيزة في أنها وإخوتها درسوا وتخرجوا ثم عملوا في مسقط، وأقاموا بيوتهم هناك، وبات صعبًا أن يعودوا لهنا، فكيف يكونون المسؤولين؟

وتنقَّلت عزيزة من غرفة إلى غرفة كأنما تسافر خلال السنوات. تلك الغرف التي حوت الأبوَّة والأمومة والطفولة، كانت قد حوت أيضًا حزمها وعطفها وأحلامها، واليوم، فهي تحوي شبكات العناكب، وأعشاش الطيور، وفضلات الفئران… أو لعلها فضلات السحالي.

هذا صحيح. ليسوا هم المسؤولين. إنها متطلبات الحياة؛ هي التي صنعت هذا.

وأخذت عزيزة تفتح باب المجلس. كانت النوافذ كلها مغلقة، فتساءلت عن المكان الذي دخلت منه أوراق الأشجار فغطت الأثاث. وكذلك أصبح للبيت أسرار لا تعرفها. ثم تناهت إلى سمعها من إحدى الغرف صيحةٌ من أمها، تقول: إن عليهم استئجار شركة تنظيف.

في الحق أن أمها هي من كان يبقي البيت حيًّا، فلولا حثُّها على زيارته بين الشهور لأمسى خرابةً يخطر إليها أهل الليل ويفعلون فيها ما بدا لهم أن يفعلوا. هي أيضًا جرفتها “متطلبات الحياة”، فاضطرت لترك البيت لتعيش مع أولادها.

فتحت عزيزة نافذة لتختلق مع البيت حوارًا جديدًا، ومن الفناء الواسع الذي كان ملعب الطفولة، لاحت لها الأشجار الواقفة هناك منذ سنوات، ظهورًا مُحْدَودبة تنوء بحمل أغصانها الكثيرة، والرياح تحرك أوراقها مثل يدٍ تُربّت عليها مواسية.

كان الغبار سيدًا مختالًا يسحب ثوبه الطويل حيثما سار، وقد احتفل بالبيت كله، فجعلت عزيزة تنفض آثاره، وتفتح مزيدًا من النوافذ لتزول سطوته.

ستمضي الشهور من جديد، وستعود العناكب، والفئران، والسحالي، وسيمشي الغبار مشيته المختالة، فما الطائل؟ ولماذا تظل أمها مصرَّة على تنظيفه كما لو كانت باقية فيه؟

لعله الوفاء للمكان، والذكريات، والتعلق بالجميل من الماضي، ولكن هذه الإجابات ليست بشيءٍ أمام ما تفرضه الحياة الجديدة التي تقضي أن الجميع يجب أن يرحل يومًا ما إلى مسقط.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق