مقالات

السيب …. “الحاملة في يدها قصيدة وفي اليد الأخرى قمر”

—————————-
حمود بن سالم السيابي
—————————-

هنا السيب الأخرى حيث الغربان لا تأتي .. فقد “تربّع” القيظ والأسراب ابتعدت لأجل “حشف” نسيه الموسم في غدور النخل.
أو لتتلهَّى ب “أمباة عايبة” غافلت “المحجان” أو “شوب بيذام” تشبث بمشيمة أمِّه فتيبَّس.
هنا السيب الأخرى … حيث لا أثر لقوارب الصيادين الذين تعكزوا مجاديفهم فنشروا الشباك بعيدا وكأنهم بيَّتوا أمرا بليل يخاتلون فيه السمك المهاجر.
وإلى هنا تخرج السيب من زحامها واكتظاظها وعشوائيتها ورطوبة بيوتها العتيقة إلى اتساع البحر وزرقته ، حيث الموج والرمل والمحار ودبيب “الشناجيب” لتفيؤ ظل شجرة ومعها رواية تضيع في تفاصيلها ، أو ديوان شعر تضيف له أبعادا إلى أبعاد صور الشعراء.
كلًّ شبر هنا تآخى مع شطآن الاصطياف في الاسكندرية و”شرم” والرملة البيضاء وقليبية تونس ومارسيليا وكان وحيوية صيف البلطيق.
كان الوقت ظهرا حين مخرتُ عباب المكان رفقة الشيخين سعيد بن سالم النعماني وأحمد بن محمد الرحبي في هذا النهار الخريفي الذي تتخلى فيه الأشجار عن أوارقها إلَّا النخيل ، وإلَّا شجر الغاف ، وإلَّا بيلسان الصداقة الذي تتعطل معه تراتبية المواسم ليبقى مزهراً كالربيع.
ترجَّلنا من السيارة فمشينا بجوار الموج وأمامنا طفولة تعبث بأصابعها في الرمل فترسم الشموس والأقمار والزرافات والدببة ، “ليتنا نرسم مثلهم فيمحو الموج عمَّا قريب كل الذي رسمناه”.
وعلى امتداد النظر اختلى بالمكان من مدّ الأقدام ليدغدغها الموج فاشحْنا بوجوهنا لكي لا ننتهك ستر خلوتهما ، ولا نسترق شبق الضحكات.
واصلنا المشي ثلاثتنا وقد تلاشى الكلام فالنسيم وحده يؤرجح الظهيرة ليغرق كل واحد منا في عوالمه بينما الموج المتكسر هو الصوت الوحيد المسموع.
لم اسائل رفيقيَّ عن صمتهما ، فتشاغلتُ أنا الآخر بصمتي لأمدَّ الأمنيات برؤية هذا المكان في قابل المواسم ، لعل رمسة لرمضان تجمعنا يوما تحت قمر الليالي البيض فيشع نوره في “استكانات” الشاي الأحمر ، ويسكب فضته ليزداد الدوران على صفحات الأكواب والفناجين.
صحبَنا الصمتُ إلى السيارة فلا تنهيه إلا صفقة الأبواب المتسائلة ، فعاد الكلام الذي بدده النسيم لنتبادل الاطراء في تفاصيل المكان.
يسمعنا الشيخ الأثيل النعماني قصيدة لشاعرة توشك أن تفقد خليل القوافي والبوح فتلتقي الآراء وقد تحولنا شراحا للشعر .
أخرجتُ هاتفي لأصوِّر فيديو للشجيرات التي تطرز الحواف وهي تتوالي من مرايا السيارة شجرة فشجرة وخلفها المظلات وأكشاك الوجبات الخفيفة والمقاهي والبحر الضجر من عدم مجيئ الناس الذين بعثرهم كورونا.
ابتعدتْ السيارة فتصاغر المشهد في المرايا ، وكأنَّ النخيل الشامخة ابتلعها الرمل ، وكان البحر الطافح بزرقته غرق في خطًٍ رمادي في لوحة فنان متخصص في رسم التكوينات التائهة.
عدنا إلى ثراء الحديث وسداد الرأي فنحن في مدرسة الشيخ الأثيل النعماني وهو بطباشيره على سبورة الذاكرة يتدفق حتى الدقيقة الأخيرة من الحصة ، وإلى أن يرنَّ جرس انتهاء النهار لنودع المعلم وحقائبنا فوق الرؤوس ومعها ثقل الواجب المدرسي.
لقد انتهى اليوم المدرسي إلَّا أننا لم نتفرق أيدي سبأ بل ضربنا في دفاتر الأمنيات موعدا للقاء جديد في صفٍّ جديد ولدرس جديد ، فشجرة الصداقة مورقة ، والبيلسان لا يقيم وزنا للخريف بل يمد الربيع إلى الربيع.
تركنا الشاطئ يبعثر رمله ومحاره بانتظار خطوات تدوس الرمل ليهدأ.
وبانتظار موجة تمد نطاقها فتنضح اليباس ليتوقف التطاير.
وتركنا السيب ترسم حلمها وتواعد عشاقها وترتشف فضة أقمارها لتكتب قصيدتها ، فهي كما في بيت نزار قباني “الحاملة في يدها قصيدة و في اليد الأخرى قمر”.
——————————
مسقط في الثالث من أكتوبر ٢٠٢٠م.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق