الثقافي
أغنيات السهارى
كتب: المحرر
لو رأونا والهوى ثالثنا
والدجى يرخي علينا الحجبا
في ستار الليل في عتمته
نسأل الصبح بأن لا يقربا
ملء بُرْدَينا عفاف ونهى
حفظ الحب وصنت الأدبا
ومن خلال جولة تأملية في عالم الأغنية تتضح لكلمة السهر أبعاد ومدلولات مختلفة نبدؤها مع التمني في قرب الحبيب والعيش على ذكراه والتألم في غيابه كما في إحدى أغاني الفنان محمد عبده:
اسهر معي ليلة
حاول تحس بلوعتي ليلة
عد النجوم اش كثرها
ياللي بقلبي كثرها
وفي سياق التمني تأتي أغنية أخرى جميلة للفنان محمد عبده التي يقول فيها:
ليتك معى ساهر ليل الهوى كله
ما نوم أنا وانت لجل الحب سهراني
وإذا تساءلنا عن سبب هذا التمني وهذا التوق الشديد وهذا الترجي العميق في نفس المبدع للسهر وقضاء أوقات الليل بجوار الحبيب، فإن مضامين الأغاني التالية ربما توضح مبعث هذه الرغبة الدفينة التي باحت بها قلوبهم ولهجت بها مشاعرهم فانثالت حروفهم وهجا ترنمت به حناجر الفنانين، مثل ما جاء في أغنية الفنان الراحل طلال مداح التي يقول فيها:
الليل ما يحلى
إلا بجلاسه
والقلب ما يسلى
أهل الهوى وناسه
ياللي معاك القلب دقة ورا دقة
غنى حياة الحب والعشق والرقة
أما أغنية الفنان حسين جاسم التالية فإنها توضح بعدا آخر من مفهوم السهر مع الحبيب حيث السعادة تغشى المكان والليل يبدو أكثر صفاء والقمر أعمق وضاءة والقلوب في لهفة ورضى:
الفرحة طابت يا هوى والسعد غنى
وبدر الليالي استوى ونوّر محلنا
وتوالفت القلوب
محبوب معا محبوب
والليل يعدي والنهار ما ندري عنه !
فإذا كانت الحالة تلك فلا غرو إذن أن تأتي أغان تتمنى أن يختزل العمر في ليلة واحدة هي التي يلتقي فيها الحبيب بالحبيب، أو أن يتمنى أن يقضي بقية حياته كلها في جوار المعشوق، ولو كان الباقي من العمر ليلة واحدة، وهو ما تفصح عنه الأغنية التالية للفنان الدكتور عبدالرب إدريس:
ليلة
لو باقي ليلة
بعمري
أبيها الليلة
وأسهر في ليل عيونك
وهي ليلة عمر!
ولا عجب أيضا أن تأتي بعض الأغاني مطالبة الحبيب بالتريث والمكوث وعدم التعجل في الرحيل والمغادرة، لذلك دارت مضامين العديد من الأغاني حول هذا المحور حيث يبدو المحبوب في
عجلة من أمره بينما يبدو الطرف الآخر في لهفة واشتياق ملتمسا من الحبيب البقاء مدة أطول .. فالليل في بدايته والسهر عند العشاق له مذاقه الخاص ومن أمثلة ذلك أغنية للفنان عبادي الجوهر تقول:
يا سيدي بدري وتوّه الليل ما هوّد
تحرمنا من نور قنديلك وتوحشنا
تكرم مداين لجل عينك فأكرمنا
ومن أمثلة ذلك تأتي أغنية للفنان عبدالله الرويشد يقول فيها:
الليل في أوله
يا حبيّبي لا تروح
الليل ملح السهر
والليل ورد الروح
أما أغنية الفنان راشد الماجد التالية فإنها تدور في ذات السياق الذي يتمثل في محاولة إقناع المحبوب بمواصلة السهر والاستمرار في إسعاد العاشق إلا أن الأغنية تضيف جانبا آخر أو تطرح سببا آخر في مطالبة الحبيب بالمكوث داخل الدار وعدم مغادرته وذلك خوفا على الليل ذاته من نور الحبيب وبهجة وجهه الوضيء الذي لو ظهر ليلا لانفضح الظلام وهتكت أستار الليل التي تجمع الأحباب وتستر مجالس الأحبة، والأغنية تقول في مطلعها:
يا صاحبي لا تسرى الليل بدري
خلك بوسط الدار لا تجرح الليل
ومهما يكن فإن صورة السهر قد تتحول إلى ما يشبه الليل الذي صوره النابغة في قوله: (وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ) في مشهدية قاتمة يغلفها الحزن وتوشيها أطياف الكآبة عندما يغيب الحبيب وتنقطع أخباره وتبحث عنه في هذا العالم كله فلا تجد له صوتا ولا أثرا ولا حسا أو خبرا، حتى تبحث عنه في حنايا أضلاعك وبين طوايا العروق والأحشاء، مضاء بالدمع ومحملا بالأسى، فيأتي موضوع الأغنية أشبه ببكائية للفقد والغياب كما في الأغنية التالية للفنان عبدالكريم عبدالقادر:
يا ظما قلبي لقلبي
وغربة عيوني عن عيوني
وينك أنت؟
يا ترى الليلة في صدري؟!
لا ..
في جفني ؟
لا …
في الشعور اللي خطفني
ودار بي الدنيا وعوّد
وينك أنت؟
آه لو تدري بشوقي
يا ظما الدنيا بعروقي
ومثال آخر على ذلك أغنية للفنان محمد عبده، والتي يبدو فيها المحب تائها في طرقات الليل مطلقا صرخات الضياع والاشتياق باحثا عن حبيب لا يعرف له مقرا:
ساري
وأصوّتْ لك أبيك
النظرة في عيوني تبيك
والرعشة في قلبي تبيك
وعلى النقيض من ذلك فإن السهر قد يكون أحيانا رغبة في الابتعاد عن حبيب تنفر منه النفس ولم تعد المشاعر تتحمله لسبب أو آخر، وقد أصبح حضوره مملا ووجوده ثقيلا، مما يدفع بالعاشق إلى البحث عن متنفس آخر وعن أفق مغاير، كما في الأغنية التالية للفنان الراحل طلال مداح:
ودي أمشي الليلة في دربٍ ما تعرْفه
ودي اجلس في مكانِ ما يذكرني بصدفة
أو وعد
ودي أحكي يا حبيبي مع أحد
غيرك أحد
ويظل مفهوم السهر في الأغنية واسعا كبيرا تناولته الأغنية في مضامين مختلفة ومحاور متباينة بين الأنس والأسى، وبين الترجي والاستبشار، وبين الحضور والغياب، وميادين شعورية شكلتها الأغنية وغردت بها حناجر المطربين مما يجعلنا نطرح ذات السؤال الذي حملته أغنية الفنان أبو بكر سالم:
يا سهران ليش السهر
ما لك فوق فرشك مقر!
إلا أن موجة الأغاني الحالية قد تسهم في تغيير مفاهيم السهر وأبعاده عن أجوائه الشفيفة لتضيف عليه قيما وأشياء ربما تشوه هذه المفردة اللطيفة.