الثقافي

أراجيز (أبي الفضل) الشيخ محمد بن عيسى الحارثي 

بين توثيق سيرة المكان وتاريخ العلاقات العمانية محليا وعربيا

 

أزهار أحمد

ولد الشيخ محمد بن عيسى بن صالح الحارثي في بلدة القابل بولاية القابل، ونشأ في بيت علم وفضل ورئاسة، فوالده الشيخ العلامة الزعيم عيسى بن صالح الحارثي. وقد تأثر بمجالس والده التي كانت تغص بالعلماء والشيوخ والقادة والزعماء. ولأنه أكبر أولاد الشيخ الزعيم فقد كان رفيقه وساعده الأيمن في إنجاز الكثير من أمور البلاد وحل قضايا الأمة التي كان يستدعي إليها السفر الذي تكرر إلى معظم المدن العمانية. كان الشيخ محمد بن عيسى الحارثي فارسا شغوفا بالخيل وشاعرا محنكا واسع المدارك والاطلاع، وقد لقب بالشاعر الفارس. ومن أهم آثاره الأدبية (ديوان أبي الفضل) الذي صححه وحققه حسن الريامي، ويشتمل على أراجيز في الرحلات، ومطارحاته الأدبية وأشعاره في الفروسية. إنما الأهمية التي تظهرها أراجيزه من الناحية الاجتماعية والسياسية والتاريخية استدعت الوقوف عليها قليلا وإبراز بعض سماتها. 

تتخذ أراجيز الشيخ محمد بن عيسى الشكل المعتاد للأراجيز من حيث البناء الفني، فقد نظمها في أبيات قصيرة سلسة واضحة المقصد، مع استخدامه لكلمات وعبارات قد تكون غير مألوفة في وقتنا الحالي. أما الرحلات التي نظمها فقد كانت مواضيعها وأغراضها حسب الأهداف المرسومة لها، فهي إما رحلات دعت إليها حاجة البلاد لقضاء أمر ما، مرافقا فيها والده الشيخ عيسى بن صالح الحارثي، أو لغرض العلاج أو أسباب أخرى. وأبرز سمات هذا النظم أن الرحلات جاءت مفصلة بشكل دقيق مبينا فيها المكان والزمان والأشخاص الذين يلتقون بهم ونتائج كل رحلة. والدارس لأراجيز أبي الفضل يلفته جزالة الألفاظ وقوتها وسلاسة الأبيات التي لم تظهر بصورة متكلفة رغم صعوبة قفلها في بعض الأحيان، حتى أن استعارته لكلمات غير عربية لم تخل بالصورة الشعرية، وإنما تنبي عن عمق شعريته وفطانته الأدبية.  ولم تنعدم الحكمة والوعظ من أراجيز الشيخ محمد بن عيسى الحارثي التي كان يختتم بها ذكر قضية ما أو حين يأتي على وصف وضع مأزوم سواء كان عاما أم شخصيا، وهذه دلائل على حكم المشايخ العمانيين في قضاء الأمور. كما لا يفوت القارئ شاردة وواردة من مباهج الرحلة وصعابها النفسية أو صعوبة التنقل والأحوال التي تجري وقتها. فالتغني بأرجوزة كاملة الوصف بديعة اللفظ والمعنى تأخذ القارئ للإحاطة بتاريخ المكان والإنسان.

ويمكن القول إن الزمن والبيئة التي عاش فيها الشيخ ألهمته سبغ أراجيزه مآثر الأماكن التي يزورها بمعية والده الشيخ عيسى بن صالح الحارثي أو في رحلاته الأخرى، حيث أن ذلك الترحال المتكرر جعله خبيرا بالأماكن سواء في المنطقة الشرقية حيث بلدته القابل، أو غيرها من المدن والقرى العمانية ملما بجغرافيتها وتفاصيلها، إضافة إلى سفره خارج البلاد إلى الهند والبحرين وزنجبار. وهناك بعض اللفتات التي توحي بروح الفكاهة لدى الشيخ كما تجلى ذلك في أرجوزة البحرين والهند. وبحكم أن والده آنذاك كان شيخ المنطقة فإن ذكر أبي الفضل لأسماء شخصيات مهمة وتعداده لشيوخ وولاة وقضاة بعض المناطق العمانية، وتشديده على إطناب مآثر السلطان في مسقط واستقباله لهم خير استقبال في كل رحلة ينطلقون منها من مسقط لهو دليل حسن العلاقات والتدبير والثقة التي يحظى به الشيخ آنذاك. 

ومن هذا المنطلق سنعرج على بعض الأراجيز التي وردت في ديوان أبي الفضل التي أسهمت خلال الوقت الذي تولى فيه المشيخة وعلى من أتى بعده على معرفة أحوال البلاد والعباد. 

ففي أرجوزته “الرحلة العدلية إلى الديار الغربية” يذكر وبعد الافتتاحية، التي بدأها بالحمد والشكر لله، بذكر اسم الله العادل وتاريخ انطلاقهم الذي سماه بعام ” أنشغ” والذي يوافق بحساب الجمل سنة 1351 هجرية.  ذكر أن سبب رحلتهم الرسائل العديدة التي تلقوها من الإمام الخليلي لحل خلاف قائم بين القبائل. انطلقوا من القابل ووقفوا بالمضيرب والغلاجي ثم السفالة وسمد الشأن، والجرداء والمقيحفة ثم العق والدسر وصولا إلى سمائل. وقد ذكر مناقب جميع الأماكن التي مروا بها والأشخاص الذين يلتقون من أصدقائهم أو من الشيوخ وكل من يستضيفهم، دون أن يغفل استطراد الذكريات واللقاءات الماضية والسرور الذي كان يرافقهم دائما بلقاءات الأصحاب. وفي أبيات الوصف نجده قد استخدم كلمات شعرية فيها من الكثير من الخيال والتشبيه والاستعارة، حاملا قارئه إلى حدائق من المشاعر المرهفة. وبعد الحفاوة الكبيرة التي استقبلوا بها في سمائل بدأ بذكر تفاصيل الأماكن التي عقدوا فيها اجتماعهم بالقضاة مثل مسجد الشريجة ومسجد الغريق، مشيرا إلى القبائل التي أرسلت رسلها مثل: قبيلة الندابي والسيابي وأهل سيجا وأهل هيل. وبدؤوا في دراسة قضية عبس والطريقة المتفق عليها لحل الخلاف شارحا ذلك كله بالتفصيل.  وبالطبع بعد النظر في الأمر والتداول والتشاور أقيم الصلح. في هذه الأرجوزة يذكر الكثير من الأسماء المعنية بخلاف كبير قد يكون له أثر في التاريخ العماني لو تتبع بشكل دقيق. ويشير في هذه الأرجوزة أيضا إلى توجههم إلى الرستاق لحل شقاق آخر كبير كاد أن يزعزع أمن البلاد، رغم أن بعض مرافقي الشيخ عيسى بن صالح رجحوا العودة للوطن، لكنه عزم الأمر على الرستاق ليقضوا فيها بالعدل. فبدأ بذكر الأماكن التي انطلقوا منها ابتداء من فنجا ووادي الضبعون، والسعادي والخوض وغيرها. حتى وصلوا الرستاق وحلوا الخلاف. فقال في ذلك:

لما اطمأنت جهة الرستاق

      من غثة الضلال والسراق

أسفرت القلوب إذ تحققا

          قفولنا وسيرنا مشرقا

أجزل أبو الفضل في ذكر القبائل، وأبدع في وصف المناطق ومناقبها وصفا تخييلا لا يقدر عليه إلا شاعر أديب.  وفي طريق عودتهم اتخذوا نفس الطريق بما وفي قلوبهم من راحة وطمأنينة بإقامة العدل وحل الخلافات. ويختتم أرجوزته هذه بوصف سعادتهم للعودة وشكر الله والصلاة على النبي. وفي ختام مؤثر يقول:

سرنا وكل الناس أمسوا في وجل

             ثم رجعنا والجميع في جذل

إنا جعلنا الناس أما وأبا

      في الحق ساوينا البعيد الأقرباء

أما الأرجوزة الثانية التي سنتطرق إليها ” الرحلة الطيبة إلى الأقطار الهندية” وللحقيقة أن هذه الأرجوزة بديعة معنى ولفظا في كل ألفاظها راحة وطيب كما جاء عنوانها. ففيها يأخذنا معه إلى الهند التي قصدها لعلاج عينيه.  مبتدئا مقصده بذكر مكان الانطلاق وهو القابل والأماكن التي عرجوا عليها مثل المضيرب والسباخ وحوراء الحبوس والعق والملتقى ولزغ ونفعا ثم بوشر والوطية وأخيرا مطرح واستقبال رئيس المجلس النيابي للسلطان لهم ولقائهم بشخصيات هامة أخرى في مجلسه. وفي هذا إشارة على علاقته الوثيقة بالسلطان سعيد بن تيمور. ومن مطرح ركبوا السفينة ثم مروا بشهبار ثم جوادر شارحا وكنوع من التوثيق لتاريخ الحكم آنذاك، ومبينا اسم والي جوادر حمود بن حمد الذي عينه السلطان واليا فيها. أقاموا في جوادر عدة أيام تزودوا فيها بما يحتاجون، ومطلعين على الأحوال هناك التي مدحها وأطنب في ذكرها. كما أنه يذكر المسافة الزمنية التي تقطعها السفينة من منطقة لأخرى وهذا دليل مرجعي آخر. من أبدع ما ذكر في هذه الأرجوزة بيتين قصيرين يصف فيها السفينة التي سافروا عليها وقال عنها (البابور) وتعني السفينة البخارية، مستدلا بذلك على ثباتها وقوتها قائلا:

سرنا إلى البابور وهو ساخر

              بالبحر لا يثنيه موج زاخر

يفري أديم الماء فريا منكرا

           ولا يخاف موجه إن زمجرا

بعد وصولهم الهند وبدء العلاج، انطلق وبكثير من الإنشراح في وصف مهارة الطبيب والأطباء حتى أنه وبلغة تدل على فطانته الشديدة في اختيار كلماته، ذكر مواعيد الأدوية وأنواعها. هذا الوصف اللطيف الرقيق كان مضمخا بكلمات لم تخل من العاطفة والتصوير الحسي لمكان وأشخاص وأشياء غريبة كلها كانت عليه وعلى لغته، فاستطاع أن يجد بدائل لها بكلمات مفهومة غير متكلفة، خاصة حين تحدث عن الأطباء قائلا:

وسرداسي أن تسلني اسمه

                 بانيان أصله ورسمه

ودختر أصغر منه سنة

             من تحته وما هو لا دونه

ينوب عنه في جميع الأدوية

           ما دون شق فإليه التوليه

وفي الحقيقة أن الشيخ في هذه الأرجوزة تطرق إلى ثلاثة مواضيع هامة: أولها التدوين التاريخي لجوادر، وثانيها وصف العلاج الناجع في الهند،  ووصف الحالة الاجتماعية في الهند. وتجدر الإشارة إلى أن الشاعر جمعة بن سليم بن هاشل الخنجري قد قرض هذه الرحلة مادحا لفظها ونظمها. وربما أجمل بيت في هذه الأرجوزة، البيت الأخير الذي قال فيه أبو الفضل:

ما حن مشتاق إلى عمان

        يروي حديث الحب للأوطان

الأرجوزة الثالثة هي رحلتهم إلى البحرين التي من خلالها نستشف بجانب رقة الشاعر ورهافة مشاعره من الأبيات الأولى التي يخاطب فيها الحبيبة واصفا إياها بأروع الأوصاف والتشبيه، وذاكرا عتابها له على سفره الدائم وهذا ما يلقلقه ويقض مشاعره مستخدما كلمات فياضة بالحب واللهفة، وهو في هذه الأبيات يحلق بخيال القارئ إلى شعر المعلقات. وخلال هذه الرحلة وللأسف اعتراه هم آخر وهو مرض والده الشيخ عيسى واضطرارهم إلى انتظاره حتى يشفى فقال في هذا أبياتا بديعة منها:

بأنحس ساعة منها خرجنا 

           فأجهد والدي بعض اعتلال

وذلك من هوى السيار لما

        توافق مع هوى ريح الشمال

فعوفي بعد أيام فشكرا

             لموليه الشفاء مع ابتهال

ثم يذكر أنهم وصلوا البحرين بعد مرورهم بالشارقة ولقاءهم بالشيخ سلطان بن صقر ثم دبي ولقاء حاكمها.  هذه اللقاءات التي ذكرها الشاعر بتفاصيلها وهذا بحد ذاته توثيق على العلاقات الطيبة بين شيوخ الحرث وحكام الدول والإمارات القريبة. في البحرين استضافهم الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، وهنا إشارة لا يجب إهمالها على قوة العلاقات العمانية البحرينية. استطرد الشاعر في وصف أخلاق الشيخ حمد بن عيسى العالية وكرمه وحسن استقباله، معجبا بما أقامه في البحرين من معمار وازدهار مشبها البحرين بالعروس. في البحرين تلقى والده الشيخ عيسى بن صالح العلاج الذي أثبت فاعليته بسرعة، وهو يصفه بأفضل صورة مركزا على تعاليم العلاج وسرعة الشفاء. كما أنه واصل ذكر كرم الشيخ حمد بن عيسى واستضافته لهم في قصره وأخذهم إلى رحلة في جزيرة وصفها كما لو أنها الجنة، فقال واصفا:

فيوم بالجزيرة قد أقلنا بها فانزاح بعض من وجال

بساتين بها ظل ظليل وأنهار من العذب الزلال

بها طيب النسيم وكل صيد كخشف أرنب ريم غزال

ثم زيارتهم للمحرق والصخير وقيامهم بها عدة أيام، ورغم هذه الزيارة الجميلة إلا أنه كان يشتاق للعودة ويرجو من والده أن يعلن موعد الرحيل للوطن. لكن هم آخر اعتراه، فما إن عادوا مسقط حتى جاءهم خبر موت ثلاثة من خيولهم المميزة التي عبر عن حزنه بفقدها تعبيرا مؤلما يحزن له القارئ لما للشيخ من ارتباط وثيق بها:

وكدر خاطري خبر أتاني بفقه الصافنات على التوالي

ثم تطرق لوصف عودتهم والاستقبال الاحتفالي الذي قوبلوا به في مطرح، ثم عبورهم الحاجر والسواقم ، وقريات الجميلة التي أبدع في وصفها ووصف مزارعها وأهلها. ثم مرورهم بوادي ضيقة الذي من الواضح أنه كان صعب العبور، فقال في هذا:

أقول لضيقة لما نفهنا إليك فكأس هجرك قد حلا لي

ولو أن طيا جاوروها لما عدنا ولو فوق السعال

إلا أن شوقهم للقابل موطنهم الحبيب وقربهم منه ذلل كل تلك الصعاب.

نستخلص من هذا أن نظم أبي الفضل الشيخ محمد بن عيسى الحارثي الصريح والواضح لمواضيع أراجيزه وإبرازه لتاريخ تلك المرحلة من الناحية الجغرافية والاجتماعية والسياسية وتدوينها بتفاصيلها الدقيقة كنز لكل باحث ودارس. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق