الثقافي

رحالة زاروا عمان (٦).. لويس بيلي

يترك الرحالة تراثًا ضخمًا من الكتب والمذكرات، تُصبح مصدرًا خصبًا يستقي منه رجال الحرب والسياسة والمستكشفون اللاحقون معلوماتهم عن الجزيرة العربية، جُل هؤلاء الرحالة يكتبون بوجهة نظر أوروبية، ويمتلكون حرية واسعة في الكتابة؛ لأنهم كانوا يُدونون معلوماتهم في شكل مذكرات وهم في الجزيرة العربية، أي يُمسكون بالحدث لحظة وقوعه، ثم يقومون بتنقيحها بعد عودتهم، فتكون المحصلة كتابات تصف من خلال رؤية الآخر، وعلى المؤرخ الباحث الذي يدرس التاريخ من أوجهه المتعددة، أن يقف على الأهداف والدوافع والغايات التي دفعتهم للترحال، وأن يُخضعها للنقد الظاهري والباطني حتى يستخدمها وهو مطمئن، أو ينظر إليها باعتبارها تحتمل الصدق والكذب، أو يرفضها كليًا أو جزئيًا. ولو تأملنا قليلا فإن تاريخًا مهمًا عاشته المنطقة كان سيُنسى ويندثر، بوفاة الرواة الذين عايشوا تلك الفترات، وعدم اهتمام العرب بتدوين تاريخهم الشفاهي. ومع أن هذه الرحلات تحمل وجهة نظر من قام بها، أو ربما وجهة نظر حكومته التي أرسلته؛ إلا إنها تبقى إحدى الشهادات الموثقة التي لا يُستهان بها.

د. علي عفيفي علي غازي
صحفي وأكاديمي مصري

يولد الرحالة العسكري البريطاني لويس بيلي Lewis Pelly (1825-1895) في 14 نوفمبر 1825، بمنطقة هايد هاوس، وبعد أن يُنهي تعليمه يلتحق في عمر السادسة عشرة بالقوات المسلحة البريطانية التابعة لشركة الهند الشرقية في بومباي، بالفيلق السابع عشر للخيالة، ليضع نفسه في خدمة التاج الملكي البريطاني في الهند برتبة ملازم ثانٍ عام 1841، تحت إدارة الفريق جون جاكوب، ليُرقى إلى ملازم عام 1843. ويُشارك مع سلاح الخيالة في الحرب الفارسية سنة 1857، ويُكلف بكثير من المهام السياسية، إذ يعمل سكرتيرًا في المفوضية البريطانية في طهران، ويخدم في البلاط الفارسي خلال الفترة (1859-1861)، ثم يعود إلى الهند عن طريق هيرات وقندهار في عام 1860، ويكون أول إنجليزي يزور هذه المناطق منذ الحرب الأفغانية (1838-1842) وبعد أن يقضي فترة قصيرة (1861-1871) كمقيم سياسي في زنجبار بشرق أفريقيا، يُعين مقيمًا سياسيًا بريطانيًا في الخليج العربي بمقيمية بوشهر(1862-1873). ومن بوشهر يطوف بكل مناطق الخليج، ويدون عنها ملاحظاته، ويقوم في عام 1868 بزيارة البحرين وأبو ظبي وساحل قطر، وينتقل بعد ذلك إلى مركز الوكيل الخاص للحاكم العام لإقليم راجبوتانا، ويضطر في عام 1874 لإلقاء القبض على حاكمها، ويتسلّم السلطة بدلًا منه في مملكة بارودا. ويتقاعد بيلي عن الخدمة المدنية في عام 1877، ويلتقي بإيمي هنريتا لودير ويتزوجها في عام 1878، ويدعوه ملك بلجيكا في عام 1883؛ ليتولى مهام إدارة مستعمرة الكونغو، لكنه يُفضل عضوية البرلمان البريطاني، فينتخب عن منطقة هاكني الشمالية حتى سنة 1892. وأخيرًا توافيه المنيه في فالماوث بكورنوال في 22 أبريل 1895، عن عمر يناهز السابعة والستين.
يقوم بيلي، أثناء فترة عمله كمقيم سياسي بريطاني في مقيمية بوشهر، برحلة إلى الرياض في وسط نجد عام 1865؛ لأجل لقاء الأمير السعودي فيصل بن تركي، أمير الرياض (1843-1865)، وكان له هدف آخر هو جمع معلومات عن نجد والرياض، التي كانت حينها غير معروفة تقريبًا للأوروبيين، وليُجيب على أسئلة الجمعية الجغرافية الملكية في لندن بشأن المناطق الداخلية من الجزيرة العربية، حيث كانت المعلومات المتوفرة عنها لا تزيد كثيرًا عمّا ذكره الجغرافي وعالم الفلك السكندري بطليموس (127-151)، وليُثبت أن بمقدور الإنجليزي أن يسافر عبر هذه المنطقة من دون أن يلحق به أي ضرر أو أذى، وفضلًا عن ذلك كان يحلم بأن يُضيف إلى أمجاده مجدًا جديدًا، متحديًا بالجريف الذي ادعى أنه الأوروبي الوحيد الذي جازف بالوصول إلى عاصمة الوهابيين.
ينطلق بيلي في تلك المهمة الدبلوماسية من الكويت في 18 فبراير مرتديًا ملابس البدو في قافلة مكونة من 30 جملًا، تحمل المتاع، ويرافقه ضابط بحري ليقوم بالحسابات الفلكية، وطبيب جراح ومترجم، وثلاثة سعاة من الهنود المسلمين، وخادم فارسي، وطاه برتغالي، ومواد تموينية. وينفق بيلي معظم وقته في توجيه الأسئلة إلى مرافقيه من البدو. ويستطيع أن يجمع ثروة كبيرة من المعلومات حول الطبيعة الجغرافية، والمناظر الطبيعية للمنطقة الداخلية بدقة شديدة، ووفرة المياة والمسافات المقطوعة، والحياة اليومية في الجزيرة العربية، ويقوم بتوثيقها بالتفصيل في يومياته وتقاريره، كما كلّف جراح المقيمية المرافق له بجمع عينات من النباتات والحيوانات والحشرات التي تُصادفها البعثة، وتم إرسالها إلى حدائق النباتات الملكية في بريطانيا، وكانوا يأخذون القياسات العلمية، ويجمعون المعلومات بصورة سرية؛ لعدم إثارة أبناء المنطقة. ويتحدث بيلي عن الاستقبال الذي لقيه في الرياض، وكيف كان «استقبالا مهذبًا… وكان الحديث وديًا». ويبدو أن بعض رجال حاشية الأمير كانوا حريصين على منع قيام أية علاقة وثيقة مع دولة كافرة، فتتدهور العلاقات بسرعة، ويرى بيلي أن من الأفضل ألا تطول إقامته فيُعجل بالرحيل. ويبدأ طريق العودة من الرياض إلى القطيف والعقير والبحرين ثم بوشهر. وأخيرًا يُمنح عام 1871نوط الفروسية، ويحمل لقب «فارس»، رغم فشل الرحلة من الناحية السياسية، حيث كان الإمام فيصل قد كبر في السن، وكُف بصره، ولم تكن ظروفه مؤاتية لعقد اتفاقيات سياسية مع الإنجليز.
يرى بيدول، الباحث بدراسات الشرق الأوسط في جامعة كامبردج، أن لرحلة بيلي إلى الرياض»أهمية كبيرة، نظرًا للظروف والخلفيات السياسية التي تمّت خلالها». إذ كان نشاط نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا (1848-1870)، في الجزيرة العربية قد بلغ ذروته، بإرساله القس اليسوعي وليم جيفورد بالجريف، ومن بعده كارلو جوارماني، ليعرض المساعدة الفرنسية على شيخ شمر وأمير حائل، ومن ثم «كان من الحيوي أن يعرف الإنجليز ما يحاول الفرنسيون القيام به، وهل يريدون إقامة إمبراطورية عربية تديرها فرنسا في طريق الهند».
يكتب بيلي تقريرًا عن رحلته إلى حكومة الهند البريطانية، يُطبع في مطبعة الحكومة بتاريخ 15 مايو 1866. بعنوان: «تقرير عن رحلة إلى الرياض عاصمة الوهابيين في قلب الجزيرة العربية». وتنشره الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية في عام 1892. وهو تقرير سياسي في المقام الأول،ويتسم بقدر كبير من الإيجاز، حيث لخص قدرًا كبيرًا من المعلومات والأفكار في جمل موجزة معقدة التراكيب. ويلقي محاضرة في الجمعية الجغرافية بلندن حول رحلته، نُشرت بمجلة الجمعية الجغرافية الملكية بلندن عام 1892 بعنوان: «رحلة بيلي لعاصمة الوهابيين في قلب جزيرة العرب».
تحقق الرحلة الكثير من النتائج العلمية، إذ نجح بيلي في تحديد موقع مدينة الرياض وفقًا لخطوط الطول ودوائر العرض. وتمكن من جمع الكثير من العينات النباتية والجيولوجية، والبيانات الإحصائية التقريبية، بالإضافة لملاحظاته الأنثروبوجية. ويتضمن تقريره الكثير من الموضوعات التاريخية والدينية والسياسية والأنثروبولوجية والجغرافية والجيولوجية والنباتية وسلالات الخيل وغيرها. ويتضمن مجموعة من الخرائط الجغرافية ذات الأهمية، تقدم معلومات جغرافية دقيقة للمستشارين السياسيين في الحكومة. يقارن باركلي رونكيير بعد عقدين كاملين (1912) بين روايات وليم بالجريف ولويس بيلي، بشأن جغرافية وسط الجزيرة العربية وشرقها، ويتوصل إلى أن الأخير أكثر دقة. وأخيرًا لا تخلو كتابات بيلي من الانطباعات الشخصية، ويظهر جليًا أن لخلفيته الدينية والحضارية والاستعمارية، دور كبير في تشكيل آرائه غير المعتدلة، لذلك ينبغي أخذ هذه العوامل بعين الاعتبار فيما يتعلق بآرائه الدينية والسياسية. لكن رغم ذلك تبقى رحلته من أنجح الرحلات في تاريخ الاستكشافات بالقرن التاسع عشر.
يحتفظ لويس بيلي خلال حياته بمجموعة من الأوراق الشخصية والرسمية المتعلقة بحياته المهنية واهتماماته، والتي منحتها زوجته إيمي بيلي لمكتب الهند بناء على وصيته قبل وفاتها في عام 1924، وتغطي المجموعة الفترة ما بين (1838-1892)، وتتضمن مشاهد من حياة بيلي المهنية في شركة الهند الشرقية البريطانية ومكتب الهند، حيث كان أهم مسؤول بريطاني في المنطقة، والممثل الرئيس للسياسة البريطانية التي مصدرها المقيمية السياسية في الخليج العربي في بوشهر، وهي الذراع الرسمي للإمبراطورية البريطانية، وبفضل احتفاظ بيلي بنسخ من مراسلاته وتقاريره الرسمية، فإن مجموعة أوراقه الخاصة تتضمن مراسلاته الشخصية والرسمية والتقارير واليوميات والسجلات والمنشورات والمطبوعات، وغيرها من الوثائق التي تعد مراجع متميزة لتلك الفترة، وتتناول تاريخ العلاقات البريطانية بمشيخات الخليج العربي، وتوضح الأسباب التي دفعته خلال عامي (1867-1868) للقيام بقصف عدة حصون في كل من البحرين وقطر وأبو ظبي، حيث اعتقد البريطانيون حينئذ أن سلسلة الانتهاكات للهدنة البحرية لسنة 1853 تتم بتوجيهات من حاكم البحرين، ويدعمها عدد من الحكام الآخرين بمن فيهم حاكما أبو ظبي وقطر، وسعيًا من بيلي لحماية مصالح بريطانيا في المنطقة، أصر على قيام جميع قبائل المنطقة بإعادة تأكيد التزامها بالهدنة البحرية، وحصل من حكام البحرين وقطر وأبو ظبي على إعلانات رسمية موقعة في هذا الصدد، وتبين الدور الذي اضطلع به في عقد معاهدات الهدنة البحرية في المنطقة، باعتباره المقيم السياسي البريطاني، حيث شهدت تلك الفترة نهاية السياسة البريطانية القائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للخليج، وتستعرض كيفية قيامه بمهام وظيفته، وأسلوب حياته، ورحلاته في سبيل استكشاف دروب المنطقة، فقد تجول في عمان وأفغانستان وفارس والسعودية وجزر سيشل وجزر القمر وموزمبيق، ومنحته رحلاته بصيرة ومعلومات غزيرة عن الشعوب والتجارة والسياسة في المنطقة، وكانت تقاريره وملاحظاته الدقيقة بالغة القيمة للحكومة البريطانية، وتميط تلك الوثائق اللثام عن الصداقات التي أقامها مع شيوخ المنطقة، وتمثل مصدرًا مهمًا لجغرافيا وتاريخ وقبائل وتجارة واقتصاد المنطقة عامة، وساحل عمان المتصالح (الإمارات العربية المتحدة) خاصة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق