غير مصنف

في وداعية.. من لا ينسى

كان نعشك يمشي فوق القلوب، يتخذ مسالكه، لا في الشارع الممتد بحزن هادر بين  قصر وجامع..

وكانت الدموع هي تلويحتنا الأخيرة، حيث الجثمان المسجى لا يتشابه مع من ودعناه على امتداد عقود..

ما فقدناه قبلك كان فقد شخص، وكنت فقيد وطن بأكمله، وكم شعرنا بأنك لم تكن فقيدنا وحدنا، نحن العمانيين، حيث بكتك معنا قلوب طالتها مناقبك، كرما وخلقا ورسالة.

كنت تلويحة الأب الأخيرة لأبنائه ليتركهم يتامى يعانون الفقد، مع أنه تركهم في طمأنينة وسلام، ولم ينسهم حتى بعد رحيله، فأحسن تقدير الأمور بعده كما أحسنها يوم أن كانت طلته بردا وسلاما.

العيون التي تغالب الدمع كانت تتابعك حتى آخر لحظة من ساعات “الوداعية” وقد رأيناها دهرا لا يريد أن يمضي سريعا، لنستأنف رحلة الحياة دون ذلك الثقل العنيد على الأرواح.

خمسون عاما من العيش تحت مظلة أبوّتك تمنيناها لو امتدت أعواما أخرى مديدة، اعتدنا خلالها على محبتك، ونخاطبك بالحب.. وأثقلنا عليك بمطالبنا التي لا تنتهي، وأنت الواثق من حكمته تمضي بنا من صرح إلى آخر.. وتطالبنا أن نعمل من أجل عمان ورفعتها.. فقصرنا دون أن نلحق بركب همتك وعزيمتك، وكنت تسبقنا بالأحلام والأمنيات لعمان، أرضا وشعبا، فنجتهد لنكون معك “أبناء عمان الأوفياء”.

حينما كنت في ألمانيا، رحلة العلاج الطويلة التي أخذتك عنا عدة أشهر، لم ننقطع عن الشوق إليك لتأتي لعمان التي تحبك، وتترقب إطلالتك، وهذا الأمل الذي زرعته فينا من يوم عودتك بقي يلازمنا في أيام معاناتك الأخيرة مع المرض، نصبّر أنفسنا بأنك ستنهض من فراشك قويا لأجلنا، كي لا نبقى ضعفاء في غيابك..

وقد مضت الأسابيع على ذلك اليوم الذي أيقظنا على وقع نعيك.. كيف سنحيل الذاكرة بعيدا عنك، كي لا تستدعيك مع كل صورة، حيث طلتك مميزة كزعيم نال ثقة المختلفين والمتناقضين، وأناقتك معبرة كعماني نراه مثلنا الأعلى، ونظرتك حانية كما يجدر بأب يرعى شئون بلاده ومواطنيه.

كيف نقف أمام صورتك ولا تعبر دمعة هذا القلب الذي عشت فيها زمنا، إنسانا أكثر من كونك حاكما، أبا أكثر من كونك زعيما..

وكيف تستقيم ألسنتنا دون أن تردد، كما اعتادت نحو خمسين عاما: “الله يطول عمر قابوس”!، وكيف تنسى أرواحنا الشاكرة جملة  الفقراء “هذا من جود قابوس”!..

كما كنا نراك في أعين أطفالنا وضحكاتها كلما رأتك ستبقى طمأنينة لأرواحنا دوما، حيث لا يبقى بأيدينا سوى الدعاء لك، بذات المحبة التي غمرتنا بها.. حيث أردت أن كون يوم رحيلك خاص بأبنائك، وقد كنا جميعا الأبناء الأوفياء، كما عهدتنا، وكما أحببناك.

رحلت، ولم ترحل..

ستبقى في كل ذرة من كياننا ساكنا أبديا..

………………

ليت الغياب يأخذنا،

بعيدا، حيث برزخه المتناهي

لننسى من يرحلون،

ومعهم أرواحنا.

ليت النسيان يهزم الذاكرة..

يجتث الرغوة السوداء

الجاثية فوق حقول قمح السنوات الآمنة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق