الثقافي

مشهد مرتبك وسؤال مصيري

  السؤال الكبير والعميق الذي يفرض نفسه على المثقفين في الزمن الحالي هو سؤال النهوض؛ من أين نبدأ وكيف وما الطريقة المثلى لاستعادة أمجاد ماضية، ومآثر سابقة، والانخراط مع بقية الأمم والحضارات في صناعة المشهد المعاصر للحياة؟ 

   هذا السؤال رغم بساطته إلا أن تعقيداته كثيفة بحيث تضيع الإجابة بين ثنايا التاريخ والمجتمع والسياسة والاقتصاد والفن والقانون والإيمان؛ أي باختصار بكل ما يمس حياة الفرد العادي وحياته اليومية والآنية، وقد اجتهد المفكرون والفلاسفة والأدباء في تقديم رؤاهم المختلفة منذ بدايات القرن العشرين وإلى اليوم.

   ولو اقتربنا من الأسئلة والاتجاهات التي انجرفت ناحيتها مناطق التحديث لوجدنا التضارب العارم بين حياة لا تشع بالمعرفة الهادفة والمنطلقة من البيئة الصغيرة؛ أي بيئة العائلة والفرد والإنسان داخل مجتمعه، وبين حياة قامت الدول بتأسيسها واختيار أفرادها؛ لقيادة المشهد وصناعته.

   هي معضلة حقيقية تنخر جسدنا الثقافي، فالصعود بالمجتمع لا يتم إلا عبر أفراده وليس عبر أي شيء آخر، بما في ذلك صناعة نماذج محددة وإدماج الإنتاج والتجارة والفلسفة في حياة ما بعد الطفولة لدى هؤلاء الأفراد؛ أي في حياة الجامعة والوظيفة والعمل الحكومي أو الخاص.

   هي طريقة اعتمدتها الدول وحاولت عبرها الوصول إلى الصعود والنهوض عبر التفريق بين مجتمع جاهل وغير مستوعب لمستجدات الحياة ولا يشارك البناء، وبيئة علمية وأكاديمية وعملية تقوم بدورها ناحية الارتقاء بجزء صغير من هذا المجموع الأكبر.

   مما يؤسف له أن الأفكار الدائرة اليوم تتحدث عن سيطرة الحكومات على عملية النهضة إما مباشرة أو من وراء ستار عبر الدعم والاحتضان، وهذا الفعل يعمق الفوارق بين الطبقات ولا ينتج سوى نخب قادرة على الممارسة والتنظير بشكل جزئي ومنفرد بينما بقية الأفراد داخل المجتمع بعيدة كل البعد عن مقومات النهضة.

   ألم يحن الوقت لتجربة أخرى ومختلفة لا مجال فيها لتخصيص النهضة بفئة دون فئة واستئثار أفراد دون أفراد؟ بلى، يتم ذلك عبر إشراك الطبقات كافة في عملية التحديث والنهوض، حيث البداية تأتي من العناية بهؤلاء قبل غيرهم، وهو تحديدا ما قام به محمد علي باشا وأثبت نجاحه الكبير.

   إذ أرسل بعثاته إلى أوروبا ولم يستثن أحدا من الطبقات المختلفة، بل أوجد لهم الفرص المتكافئة وجعل معيار المنافسة هو النجاح والإنجاز فعادوا بعد الابتعاث وأقاموا المدارس والمعاهد واحتلوا صدارة المشهد، وظلوا متصلين بمجتمعاتهم المحلية وغير مبتعدين عن التيارات الدينية والفكرية الجارية فنفذوا إليها وأثروا فيها.

   هذا المشهد نحتاج إلى تكراره اليوم، بعد دراسته والتعمق في أخطائه وعيوبه واكتشاف الأسباب التي أدت لتوقفه عند نقطة محددة وعدم قدرته على مجاوزتها، فالنهضة التي أقامها توقفت وبقيت ناقصة ولم تكتمل، ولا بد لها من استئناف، إن أردنا الخروج من الدائرة المغلقة التي بتنا إحدى حلقاتها.

   لا حاجة تدعونا لتكرار التجارب السابقة، بل الحاجة إلى استحداث تجارب جديدة تصلنا بها وتستكمل ما طرحه الرواد آنذاك، ومواصلة بداياتهم ومن ثم العبور ناحية العلوم المختلفة التي توقفنا عندها، وشكلت لدينا وعيا بتجربة لم تكتمل.

   إن الانتقال من السقوط إلى الصعود يستلزم عملا جادا ومثمرا وعدم الاكتفاء ببعض التجارب هنا وهناك، بل لا بد من إشراك المجتمع بكل فئاته في عملية التحديث، وهو ما افتقدته تجربة البدايات وأهملته، رغم أنها شهدت نتائجه وانبهرت بها، وأرادت لها الاستمرار مع الأجيال اللاحقة التي توقفت.

   نحن اليوم أمام فرصة ذهبية، بل فرص عديدة وجميعها تدعونا لممارسة دورنا في الوجود؛ حيث نمر بمنعطفات حادة ومتقلبة داخل نظام عالمي غير مستقر، وصل حالة من اللا يقين، فخلال المنعطفات التاريخية تبرز الأمم وتنهض، وتمارس حقها ودورها، رغم احتياجها لبعض الوقت؛ كي تسترد ما فاتها، وهي عملية تطورية لا بد منها، ولأجل اكتمالها ينبغي التأكيد على مشاركة المجتمع بكامل فئاته.

   الفئات المعنية هنا ليست إلا الأفراد العاديين وغير المثقفين الذين يمارسون المهن المختلفة، والبعيدة كل البعد عن الحياة الثقافية الصاخبة، ولكنهم يعيشون نتائجها ونتائج العلم المنتج لأدوات التحديث والنهوض، حيث ينبغي نشر ثقافة العصر وأساليب عيشه وطريقة إدارته؛ لكي تصبح أمرا اعتياديا وبديهيا.

   توطين العلوم والمعارف لا يخلق أجيالا معرفية وثقافية قادرة على الإدارة لعملية التحديث والنهوض، ولكنها تخلق الأرضية الصلبة لاستنبات الإبداع والتفوق؛ حيث يشعر الفرد ببديهية ما يراه ويحصل أمامه، وتكون المنجزات من ضمن (المُفَكَّر به) لا من ضمن (اللا مُفكَّر فيه).

   حين نصل إلى هذه المرحلة تكون أسباب النهضة قد حدثت بالفعل، فالعقل الإنساني سيتولى الباقي، ويكمل مسيرة أسلافه، إذ الحضارة لا تختلف من شعب لشعب أو أمة وأمة، وإنما هي امتداد يصل السابق باللاحق، وينقله وينتقل معه ناحية مرحلة تالية.

   النهوض كفاءة داخلية قبل أن تكون إلزاما من خارج، وحين تصبح الكفاءة في متناول جميع الأفراد ستكون مسألة الانتقال من حال إلى حال مجرد وقت.

محمد الحميدي

9 أغسطس 2020م

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق