الثقافي

(الشاشة) . . قارب الأجداد الذي لا يغرق

حسن المطروشي

تتميز السلطنة بتاريخها البحري العريق الذي يمتد إلى اَلاف السنين والأحقاب، حيث تؤكد الدراسات والبحوث أن العمانيين من أوائل الشعوب الذين عبروا البحار والمحيطات الكبرى وخلدوا تارخهم في سجل الحضارات الإنسانية بإنجازاتهم الباهرة في هذا المجال ونقشوا أسماءهم عميقا في ذاكرة الماء.

وقد ابتكر العمانيون عبر تاريخهم المضيء العديد من الوسائل وأنواع السفن التي استخدموها لارتياد البحار واكتشاف أسرارها الغامضة والوصول إلى أصقاع الكون القصية التي لا يصل إليها إلا المغامرون والعظماء. ولعلنا نذكر في هذا السياق أسماء عدد من المراكب والسفن والزوارق التي تتنوع في أشكالها وأحجامها مثل (البوم) و(الشوعي) و(السنبوق) و(الغنجة) و(البدن) وغيرها الكثير من الأسماء المعروفة وغير المعروفة على نطاق واسع.

من الوسائل التي لم تسلط عليها الأضواء ولم تنل حظها من التوثيق وسيلة (الشاشة) التي هي عبارة عن زورق صغير يصنع من جريد النخيل ويستخدم لأغراض الصيد بصورة أساسية، وتوجد في أغلب المناطق البحرية في السلطنة. في هذه السطور نسلط الضوء على(الشاشة) لنعرِّفَ القارئ بجانب من مهارة الإنسان العماني وقدرته المبكرة في استغلال أبسط الموارد ومعطيات الطبيعة من حوله ليسخرها في حياته اليومية.

 

يستخدم في صناعة الشاشة مواد طبيعية بسيطة أهمها جريد النخل والكَرَب (الجزء الأعلى من الجريدة المرتبط بجذع النخلة) الذي استبدل فيما بعد بالفلين، والحبال التي كان يصنعها البحارة سابقا من ألياف النخيل ثم استبدلت لاحقا بالحبال البلاستيكية المستوردة، وأعواد الخشب التي عادة ما تكون من السدر وتوضع لتثبيت أجزاء الشاشة مثل القاعدة والدفتين والغطاء لشدها والحفاظ على استقامتها ومتانة بنيانها وتماسك أجزائها.

أما الأدوات المستعملة فهي القدوم والسكين اللذان يستخدمان لترقيق وتسوية الطرف الأعلى من الجريد، والمشكَّة ويطلق عليها شعبيا (الشكنة) التي تستخدم لثقب الجريدة من أجل تمرير الحبل الذي يربط الجريدة بالأخرى المجاورة لها على نحو منتظم. أما صانع الشاشة فيسمى ( الوشِّير) وتسمى عملية الصنع (وشار)، وهناك موسم خاص للوشار (موسم صناعة الشوش)، أما جمع كلمة شاشة فهي شاشات وشوش.

تمر عملية صناعة الشاشة بمراحل مختلفة ومتعددة، وتبدأ باختيار نوع الجريد الذي يشترط أن يكون متينا قويا صلبا قادرا على مقاومة ظروف الطبيعة والبللل. وبعد اختيار العدد المطلوب من الجريد وفقا لحجم الشاشة التي يراد صنعها، يتم تنظيف الجريد وتشذيبه من الشوك والشوائب، ومن ثم ربطه في حزم. هذه الحزم من الجريد تخضع لعملية تبليل بالماء كي يسهل فيما بعد ثقبها وتمرير الحبال خلالها من أجل ربطها ورصها جنبا إلى جنب.

هناك عمليتان أساسيتان تتبعان في تبليل أو (تليين) الجريد، فهو إما أن يدفن في الثرى الرطب من تربة البحر قرابة أربعين يوما بحيث تعبر عليه الأمواج خلال عملية المد والجزر، وإما أن ينقّع في مياه البحر مباشرة، و في هذه الحالة يوثق بالحصى أو المراسي كي لا تجرفه المياه بعيدا.

 عقب انتهاء فترة (التليين) يستخرج الجريد حزمة تلو الأخرى حسب سير العمل (لا يؤتى به دفعة واحدة كي لا يجف ويتصلب) ومن ثم يشرع في عملية صناعة الشاشة فعليا، وتبدأ بترقيق رؤوس الجريد وتشذيبها ثم سلكها في الحبال ورصها واحدة تلو الأخرى حتى يكتمل بناء هيكل الشاشة والذي يبدأ بالقاعدة (تسمى شعبيا بالقاعة) وتكون عريضة من الوسط وصغيرة ملتمة من المقدمة والمؤخرة.

عقب الانتهاء من نظم العدد المطلوب من الجريد للقاعدة يتم توثيقها بأعواد خشبية على نحو عرضي يسهم في تماسك الجريد وضبطه من الحركة. عقب ذلك ترفع المقدمة والمؤخرة للأعلى بواسطة أعمدة خشبية في حين يوضع في وسط القاعدة أشياء ثقيلة مثل الأحجار وأكياس الرمل، وتترك لمدة أيام، وذلك بهدف إعطاء القاعدة شكلا مقوسا يساعد الشاشة فيما بعد على شق المياه وعبورها بسهولة ويسر.

وبعد الانتهاء من تشييد القاعدة يبدأ بناء الدفتين اليمنى واليسرى (يطلق على الدفة شعبيا الدفّان). وكما حدث مع القاعدة توثق الدفتان كذلك بالأعواد الخشبية التي تظهر من الجانبين للأعلى حيث يكون اثنان منهما (واحد في كل جهة) عادة أقوى وأسمك من الأخرى إذ أنهما يستخدمان لتثبيت المجاديف عند الإبحار على الشاشة. وعند اكتمال بناء الدفتين يشرع عادة بإنشاء النصف الأسفل من الارتفاع الكلي حتى يتم تشكيل الحوض السفلي الذي يحشى بقطع مختلفة الأحجام من الفلين ثم يغطى بواسطة الغطاء الذي يتم صنعه بمعزل عن الشاشة، ويكون بحجم مساحة القاعدة تماما، وهو ما يحدده عدد الجريد المستخدم في كل من القاعدة والغطاء.

 

بعد استكمال صناعة الغطاء يتم تثبيته إلى هيكل الشاشة الأساسي الذي مازال في هذا الطور عبارة عن الحوض السفلي الذي تم ملؤه بقطع الفلين (أو كرب النخيل سابقا). ولعل البعض يتساءل هنا عن سبب ملء بطن الشاشة بالكرب أو الفلين.  إن السبب ببساطة أن كرب النخيل وقطع الفلين هما العامل المباشر في الحفاظ على الشاشة طافية على سطح البحر، لأنهما لا يغرقان، وبالتالي فإن الشاشة خلافا لكل الأوعية البحرية لا تغرق أبدا ولو انكفأت على وجهها في الماء، فإنها تظل طافية فوق سطح الماء في أعتى الظروف، وهذه خاصية تتميز بها الشاشة على بساطتها. عودا للحديث عن تثبيت غطاء الشاشة، فإنه يوثق بإحكام تام من كل الجهات، مع الدفتين اليمنى واليسرى، ومع القاعدة أيضا من خلال الأعواد الخشبية التي توضع عليه بالتساوي مع الأعواد الخشبية التي رصت بها القاعدة وتكون موازية لها في وضعها، إذ يتم ربط هذه الأعواد العلوية وتثبيتها مع الأعواد السفلية في القاعدة بواسطة الحبال التي التي تمرر من الأعلى للأسفل من خلال الكرب أو الفلين الموجود في بطن حوض الشاشة، وبالتالي تتماسك القاعدة مع الغطاء وبقية أجزاء الشاشة على نحو متين وثيق.

وبعد انتهاء هذه المرحلة يتم استكمال بناء الجزء المتبقي من الدفتين لتشكيل المساحة العلوية الرئيسية التي يجلس فيها البحارة ويضعون فيها شباكهم وأمتعتهم، وتكون الشاشة بالتالي جاهزة للاستخدام والدخول في عباب المحيط .

 هناك عدة أساليب وطرق لتسيير الشاشة على الماء. الوسيلة الأساسية هي المجاديف التي تثبت على الأعواد الخشبية الجانبية ويمكن أن يقوم بالتجديف شخص واحد أو أكثر حسب الحاجة والضرورة وحجم الشاشة. أما الطريقة الأخرى فهي الشراع الذي يستخدم أحيانا عاملا مساعدا للمجاديف من أجل زيادة سرعة سير الشاشة إذا طابت الريح. وهناك طريقة ثالثة مبتكرة تتمثل في تركيب الماكينات الحديثة على الشاشة حيث تم استحداث فتحة واسعة في مؤخرة الشاشة تخصص لتثبيت الماكينة وتشغيلها على نحو القوارب الحديثة. ورغم تطور وسائل الإبحار فإن الشاشة تظل رفيقة وفية للبحار العماني البسيط، وهي تمثل جزءا من ذاكرته وذكرياته وتاريخه مع البحر.

إلا أن الأسئلة التي تطرح الآن هي: ما مصير الشاشة، وما هو مستقبلها في ظل رحيل الجيل الذي كان يصنعها ويبدع هندستها؟ وما هي الوسائل التي اتخذت للحفاظ على هذه الصناعة و توثيقها أدبيا لتظل شاهدا حيا ناطقا على عظمة المنجز الحضاري والتاريخي للإنسان العماني.

ملاحظة: نشر الموضوع في عدد شهر أغسطس 2017م.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق