—————————
حمود بن سالم السيابي
—————————
ليته عاد إلينا من زنجبار بعمامة جده سعيد بن سلطان وسيفه ودجلته ورايته البوسعيدية فسلاطيننا اعتادوا الإبحار من الفرضاني إلى فرضة مسقط وعلى السفائن المدافع والحاشية والخيول.
ليت السفينة “السيد خليفة” التي أقلعتْ ذات حزن باتجاه “بورتسموث” هي ذاتها التي يستقلها السلطان جمشيد إلى الشطر الآسيوي من إمبراطورية سعيد بن سلطان وبرفقته دولة رئيس وزراء زنجبار محمد شامتي ومعالي علي بن محسن البرواني أول وزير خاجية لزنجبار بعد إعلان الاستقلال فتستقبله عمان بالسجادة الحمراء وحرس الشرف والعمائم والقصائد والهتافات فيحل في بيت جريزة في مسقط بجوار قصر العلم أو ببيت المقحم في بوشر ليمد رجليه في الينابيع الساخنة بغلاء للاستشفاء من دمامل الزمن والتهاب المفاصل كما فعل جده برغش.
أو ليقيم بمنزل الجد المؤسس الإمام أحمد بن سعيد في حارة البوسعيد بولاية أدم.
أو ليمضي عيد ميلاده الحادي والتسعين ببيت بمدينة الإعلام وتحت الشموع “دسوت” حلوى زهران بعد أن تكررت في الأعياد السابقة مذاقات “بودنج مربى التوت” و”الرولي بولي” وأصناف المعجنات الإنجليزية.
ليته عادليودِعَ خزائن مكتبة جامع السلطان الأكبر النسخ النادرة لمخطوطات آبائه من المصاحف الشريفة والطبعات الأولى للمؤلفات العمانية التي استفتحتْ بها مطبعة برغش الدوران ، ويحمل للمتحف الوطني أكبر مدافع أساطيل الإمبراطورية ومناديس قصر المتوني ومحاليق قصر الساحل ومرايا بيت العجائب.
ليته عاد وفي السفينة المبحرة إلى الوطن الأم شجر القرنفل لسهل الباطنة و”أمباء الدودو” للعليا وحيل الغاف و”المهوجو” لبقية السهول.
ليت وليت وليت ، إلّا أنَّ للأقدار تصاريفها وتراتبيتها ، وللتاريخ تدويناته التي تفضل “تمَّ وأنجِزَ واستُكْمِلَ” على “ليت .. كيت وكيت”.
ورغم ذلك فإن العودة الحزينة لآخر سلاطين شطرنا الإفريقي ستلزمنا العودة لتقليب الدفاتر والمواجح ونبش الجروح ، فزنجبار ليست مستعمرة عمانية استعادها الأفارقة ولا هي بدولة احتلها العمانيون فانسحبوا منها ، بل زنجبار برّنا الأفريقي الباهظ التكاليف ، حيث بذل فيه العمانيون الأرواح والأموال ليتطهَّر البرّ الافريقي من أرجاس الأوروبيين الذين عاثوا فسادا فيه وفي غيره من سواحل العالم ، بعد أن امتد عبثهم إلى مسقط ومطرح فقوبلوا ببسالة عمان ومقاومتهم إلى أن أجلتهم وهم أذلاء ، بل ولاحقتهم على طول السواحل لتبعد مخاطرهم عن الحوزة العربية ، ولتكسر أحلامهم وتهزم مشاريعهم الاستعمارية.
لقد تعمَّد البرّ بالدم العماني الطاهر وارتفعت الرايات اليعربية علي سواري من الرماح والسيوف.
ثم استكمل البوسعديون المهمة بعد أسلافهم اليعاربة في حماية الحوزة فشيدوا المآذن ونشروا التعليم وزرعوا البرّ الأفريقي فتكرّس شطراً أفريقيا للوطن الممتد عبر عمان وساحلها الشمالي وأجزاء من سواحل فارس وبر السند.
وتجيئ العودة الحزينة لجمشيد لتقلِّب مواجع أطول ليلة عرفتها “أنغوجا” في التقويمين اليعربي والبوسعيدي ، وأحلك ظلمة عاشتها “بيمبا” في تعاقب الليل والنهار انتهت بإنزال الراية الحمراء من سارية قصر السلطان برغش “بيت العجائب” بعد مذبحة ستبقى وصمة عار في جبين الدهر.
ولقد غادرت السفينة السلطانية “السيد خليفة” الفرضاني في نسخة زنجبارية لرحلة لسفينة المصرية المحروسة ، فيخت المحروسة أبحر من الأسكندرية إلى الضفة المقابلة للأبيضالمتوسط لتنتهي في إيطاليا وعلى متنها فاروق بن فؤاد الأول آخر ملوك أسرة محمد علي.
أما السفينة “السيد خليفة” وعلى متنها جمشيد بن عبدالله بن خليفة بن حارب آخر سلاطين عمان فعبرتْ البر باتجاه دار السلام ومنها استقلّ الطائرة فوق الأبيض المتوسط حتى هيثرو لينتهي المشوار على ضفاف بورتسموث حيث أكبر القواعد البريطانيا في جنوب شرق إنجلترا.
ومنذ عام ١٩٦٤ والسلطان جمشيد في منفاه القسري يقترب من القنال الإنجليزي ليشم رائحة البحر وعبق الأشرعة المبللة بالمطر وليصافح سحنات البحارة العابرين للمتاهات الزرقاء ، لعل ّفي الأيادي عطر المؤذنين في “الأستون تاون” وفي الأردان زهر المواسم في “الشوانب” ، وفي أجهزة التسجيل أهازيج البحر و”رزفة” العيد أمام بيوت السلاطين وقصيدة جده سعيد بن أحمد “يا من هو أعزه وأذلني”
ونونية شاعر العرب أبي مسلم
“تلك البوارق حاديهن مرنان”.
وعبر ستة وخمسين سنة وجمشيد عند صخرة البحر يتجرع أمواس التاريخ ويستعيد زمن آخر ملوك الأندلس “الغالب بالله” الذي يبكي ملكاً لم يحافظ عليه ، والحقيقة أن المؤامرة أكبر من أن يحافظ عليها هو وغيره ، بعد أن دبرت المكيدة بليل فبات التصدي لها أكبر من جمشيد وزنجبار ومن كل أفريقيا.
وحين اسْتَقْبِلَ جمشيد في منفاه القسري نبأ اغتيال عبيد كرومي في السابع من أبريل ١٩٧٢ انتعشت آماله بالعودة ، إلاَّ أن “انغوجا وبيمبا” ابتلعتهما “تنجانيقا” وقبل ذلك أعطى المتآمرون ممباسا ومالندي لكينيا بعد أن تحاصص الساحل الشرقي مع وكلاء الاستعمار فانتهت زنجبار كسلطنة لها سلطانها وعلمها ومقعدها في الأمم المتحدة ومعاهداتها الخارجية وسفاراتها وعملتها وإذاعتها الرسمية وصحفها وطوابعها البريدية لتتراجع إلى مجرد تويبع للرئيس التنزاني جوليوس نيريري وصفحة من صفحات مؤلفاته الأدبية عن زمن رومانسي كان هنا ، وعن سلاطين كانوا يقيمون العدل ، وعن عرب ومآذن وقرنفل.
واستمرّ جمشيد من شرفته البحرية على القنال الانجليزي يتابع السفائن والأشرعة ويخبر وسائل الإعلام بأن سلطنته إذا استنفرته للعودة سيستجيب.
لكن جوليوس نيريري وبتواطؤ أممي أخرج من الجغرافيا الأفريقية جوهرة الشرق زنجبار ، ومن التاريخ نظام الحكم السلطاني ، لتبقى زنجبار مجرد إدارة محلية غير قابلة للحياة ، ومزرعة للقرنفل توفر العملة الصعبة للخزينة التنزانية وتعزز موارد الموازنة بالعشور والرسوم.
ها هو السلطان جمشيد يعود إلى الحمى العماني برعاية مولانا الهيثم المعظم ولينعم بالإقامة في حضن الأجداد بمسقط بعد أن سئم من مجاورة البحر الذي لا تمخره سوى مراكب الانجليز.
وضجر من البحارة الذين لا يتكلمون العربية ولا السواحلية.
وملّ رمادية مياه القنال الانجليزي التي لا تتصادق وزرقة البحار.
ولعل خير ما أَخْتتمُ به هوامشي على دفاتر العودة قول محمود درويش :
أَنا واحِدٌ مِنْ مُلوكِ النِّهاية..
أَقْفِزُ عَنْ فَرَسي في الشِّتاء الأخيرِ,
أنا زَفْرَةُ الْعَرَبيِّ الأخيرَةْ
——————————-
الحوقين – الرستاق في ١٢ سبتمبر ٢٠٢٠ م.
مع شكري الخاص للشيخ الجليل ناصر بن عبدالله الريامي ذاكرة عمان وزنجبار.