مقالات
سحر الأمكنة: مطرح نافذة عشق على بحر عُمان
- كتب: علي الريامي/ أكاديمي بجامعة السلطان قابوس
قليلة هي المدن التي يمكن أن تكون نافذة عشق أزلي ببساطتها، وجمال دلالها، ولعل التغيير الذي طال شيء من معالمها خلال العقود الماضية لا تكاد تشعر بها، فشابها خالد متجدد، وايقونة سحرها تعويذة ذلك البقاء الذي يستلهم الماضي ويتجسد في الحاضر ويطل على المستقبل.
مطرح هي مطرح التي بقيت تقطر حباً، وتنفث دفئاً، حتى أكاد أجزم أنها أول المدن وآخرها التي أغوت السندباد بحثاً عن فانوسه السحري، وبساط الريح، وخاتم سليمان. السندباد الذي كان يلقي بمرساة سفينته الشراعية على فرضتها بشغف العاشق، والذي كان يودعها بلوعة المتيم التائق للإياب بعد الذهاب. وحين كان يتماهى بياضاً من بعيد مع أجنحة النوارس المحلقة، يتذكر معشوقته التي تحولت إلى حوريةٍ آثرت البقاء لتحرس مرساة فلك السلامة، تنتظر عودته عاماً بعد آخر، بل لحظة تلو أخرى.
في مطرح يرسم الغروب في الأفق البعيد لوحته السريالية الموشاة بألوان الفرح، باللون البرتقالي والقرمزي، وبشيء من خيوط الشمس تتدلى على أكتاف البشر القادمون من شرق وغرب وشمال وجنوب، من الداخل من جبال الحجر وأوديته وبادية الصحراء، والقادمون من البعيد ممن لا تفارقهم الأحلام والآمال، ولا يستسلمون للآلام التي خلفوها وراءهم بحثاً عن مغامرة في حياة أخرى، يلقون عن كواهلهم تعب البحر وزرقته اللامتناهية. تمشي فتأخذك الخطى دون أن تدري لترى الأطفال يتقافزون على كورنيشها البحري، وهم يحلمون بان يحلقوا يوما بفرح كالنوارس المطرحية..
لم يكن السندباد ليتمذهب يوما وهو يمر على عتبات جامع الرسول الأعظم في طريقه لاكتشاف عوالم أزقة مطرح الضيّقة، يدخل من بوابة سور اللواتيا.. يستريح قليلاً على مصطبة صباح السور، ثم يكمل طريقه متسللاً إلى سوق الظلام، ينفذ من خلاله كمن ينفذ من ثقب إبرة إلى عالم لا يقل سحراً من العوالم التي زارها، ينفذ متأبطاً دفتر مغامراته وحكاياته العجائبية، يضيف فيه فصلاً مطولاً عن مطرح وحاراتها القديمة.
يمضي السندباد وهو يسيخ السمع لألسنة كثيرة جاءت من عوالم وأمكنة مختلفة.. يقف برهة عند مدخل باب السوق.. يبحث في زوايا المدخل يسأل عن المقهوي لكن قيل أنه رحل، ولم تبق سوى ضحكة الفناجين بين يديه، وشيء من بقايا الأمل.. كان قد رحل، لكن انعكاس ابتسامته بقيت محفورة على دروازة السوق..
يواصل السندباد طريقه بحثاً عن سجادة فارسية.. شال كشميري.. عود كمبودي.. خاتم يمني.. خزف صيني.. جلد تمساح أفريقي.. خنجر عماني.. ولبان ظفاري تختلط رائحته بعطر المكان والزمان. سارع الخطى باتجاه دختر طومس والممرضة خاتون نعيمة فلا يجده.. يصاب بحسرة وهو يحدث نفسه، لماذا أضحى المشفى أثراً بعد عين، وكان يمكن أن يكون متحف مترع بالذكريات والحكايات.. ثم يتذكر طاحونة الهواء في كهبن.. وكيف أضحت هي الأخرى مجرد ذكرى..