إن من الأمور التى تمر علينا نحن البشر في معترك هذه الحياة بعد الإيمان بالله العلي العظيم الابتلاءات والمحن والتمحيص واختبار درجة الإيمان الحقيقي فسنبتلى بنقص في مستوى الحياة المعيشية والفقر والأمراض أو موت الأحباب وغيرها من الابتلاءات التى لا بد من أن نستعد لمواجهتها
ولندرك ماهية هذا التمحيص وكيفية تقبله ونتسلح بما أودعه الله لنا من مكنونات وطاقات وقوة لنتجاوز هذه المحن.
أي السفن سنختار من أجل ركوب أمواج هذه الحياة المتلاطمة؟
وأي مجداف سنستخدمه لنصل إلى شاطئ النجاة؟
ان من أجمل وأرقى الوصايا وصية سيدنا وحبيبنا النبي صلى الله عليه وسلّم لأبي ذر رضي الله عنه حيث قال:
(يا أبا ذرّ احكِم السفينةَ فإنّ البحرَ عميق
وخفف الحِملَ فإنّ العقبةَ كؤود
وأكثر الزادَ فإنّ السفرَ طويل
وأخلص العملَ فإنّ الناقدَ بصير)
نعم نحتاج نحن البشر إلى إيمان راسخ قوي نستمده من الله حتى نتجاوز كل المحن والابتلاءات بماذا نقوّي هذا الإيمان هل بكثرة الإطلاع وتكريس المعلومات في الذاكرة؟ أم بالإكثار من الذكر والاستغفار وغيرها من العبادات للوصول إلى بر الأمان؟ أم أن هناك أموراً لابد من أن نعرفها وندركها تمام الإدراك؟
هذه جولة ولمحة يسيرة لعلنا نصل إلى مبتغانا
وخير ما نبدأ به آيات الكتاب العزيز حيث يقول الله تعالى
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ”. (153 – البقرة).
يخاطب الله في بداية الآية الكريمة المؤمن وإن كل نداء يصدر بـ “يا أيها الذين آمنوا” معناه أن الله يخاطب من آمن، ليتلقى عنه التكليف الذي هو طوع الإيمان، لم يقتحم الله على أحد حركته ليكلفه، وإنما كلف من آمن به، فلم يقل يا أيها الناس افعلوا كذا، حين يخاطب الناس فهو يأمرهم أن يؤمنوا، وحين يخاطب المؤمنين يأمرهم أن يعملوا على مقتضى الإيمان، إذن فالتكليفات حيثيتها يا أيها الذين آمنوا
ثم جاءت كلمة استعينوا ومعناها اِسْتَعانَ أي اتّكأ والتجأ أو طلب العون والمساعدة أي أن أمرًا في حركة حياتك فاق طاقتك وقدرتك، ولو أن كل أمر دخل في مقدورك لما طلبت معونة من أحد، إذن السؤال
متي تطلب المعونة؟
الجواب : عند عدم القدرة . فلابد أن يكون لك فعل يستوعب قدرتك، وإذا ما جاء فعل يفوقها استعن بالقادر الذي لا تنقطع قوته، وتُقبل على الأشياء مستعينًا بمن خلق الأشياء، وحسب سياق الآية الكريمة لن تستعين إلا عندما تكون مؤمنًا.
“استعينوا” دلت على أن هناك أحداثًا ستأتي لتجهد الطاقة البشرية “بالصبر”، يعني أن هذه الأشياء فيها إيلام وشدّة، وكأنه يعد النفس البشرية لحركة جهادية كبيرة ستستنفد طاقة الإنسان، وتتطلب المشقة فيها أن يصبر على ما يلاقي، فهو لا يمنيها بطريق مفروش بالورود، أن لكم مهمة، مهمتكم في الحياة أنكم أصحاب الحق، ومبادئ الحق لا تأتي إلا حين يستشري الباطل، فستواجهون عنفًا، وتواجهون شراسة، وتواجهون مكرًا، وتواجهون كيدًا، إياكم أن تخوروا في عقبات هذه المهمة، وكل الذين حاولوا أن يخرجوا عن ملك الله بمعصيته، ستحاربونهم وستواجهونهم، ولن يسلّموا لكم الراية يسيرًا، بل سيتكالبون عليكم، فكونوا أنتم أشد منهم قوة وصلابة حتى تتجاوزوا المحن والصعاب
(واستعينوا بالصبر والصلاة)
الصبر هو أن تتحمل لونين من المشقة، الأول أن الطاعة صعبة على النفس، فاستحمل صدرك عليها، والثاني كف عن شهوة تلح نفسك عليها، وهذه أيضًا تتطلب صبرًا، صبرٌ في حال إيجاد الطاعة، وصبرٌ في حال تجنب المعصية، فأنت في الأمرين مطلوب منك عمل تراه في نفسك أنه شاق، صبر على مشقة الطاعة لتفعلها، وصبر على ترك المعصية لتتجنبها، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم “حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات”، إذن مطلوب منك أن تصبر على المكاره عند الطاعة، ومطلوب منك أن تصبر عن الشهوات التي ستتجنبها بترك المعصية.
ولقد طولب البشر بأن يستعينوا على ما أُمروا به بالصبر لأن الصبر أعظم وسيلة لتخطي الحواجز
وما أصعب التغلب على العادات عند من لم يتسلح باليقين ويتدرع بالصبر
وأنَّى للمصلي إن لم يكن صبورًا على حبس عقله وقلبه وفكره ووجدانه وسمعه وبصره على ما هو مقبل عليه من ذكر الله
فإذا كانت الصلاة نفسها لا تخلو من الصبر للوفاء بحقها فإن عطفها عليه إنما هو من باب عطف الخاص على العام وقد خُصّت بالذكر من بين سائر الأعمال لأجل أهميتها وقدّم عليها الصبر لأن مفهومه الأصلي ترك الجزع والخلاصة..
إننا نحن البشر بطبيعة حالنا يكسونا الضعف والضجر وربما نصل أحيانا إلى عتبات اليأس (وخلق الإنسان ضعيفا) هنا نتوه في دوامة ابتلاءات الحياة ونفتن ونضعف، والأصل أنها توصلنا إلى درجات أعلى وأسمى من النضج والحكمة، ولتبرق وتلمع معادن أخلاقنا ويسمو إيمانا، لأن الله لا يبتلينا بشيء لا تتحمله أنفسنا وطاقتنا البشرية فهو العالم بحال ضعفنا وقدرتنا قال تعالى:(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}..
هنا قبل أن تستقبل جوارحنا وأرواحنا البلاء والمصيبة علينا أن نتهيأ وندرك معنى كلمة (الاستعانة) ونفعّلها ونرسّخ معانيها في ألبابنا وقلوبنا وهذا كله لا يتحصل إلا إذا تيقّنا وتحلّينا (بحسن الظن بالله) وحسن الظن هو ما يجعلنا نوقن بالإجابة وحسن الظن مقدم على الصبر والصلاة وإلا فكيف نستعين بالله وقلوبنا خاوية من حسن الظن به (يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظُنَّ بي ما شاء)
ويقول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – (إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن همّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء فإن الإجابة معه)
لأن الدعاء يسبقه حسن الظن بالله، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ”قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن ، فإن قومًا قد أرداهم سوء ظنهم بالله، قال الله تعالى: ( وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ).
بعد حسن الظن بالله نستعين بالأسباب ونتحوّل للمرحلة الثانية وهي (الصبر) فنصبر ونحن تغمرنا السعادة رغم قسوة المصاب وإن كان جللاً ونلجأ إلى (الصلاة) لنرتاح من عناء الألم وكدر الحياة ولنحيى الحياة الطيبة التى وعدنا الله بها (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) حتى نصل إلى تقوية وشحن القلوب بالإيمان (الحقيقي) فقوة الإيمان تزداد بحسن الظن بالله ثم تهتدي قلوبنا إلى الغاية المنشودة من خلقتنا ويستشري الإيمان في أغوار شرائينها وتضخ بنور اليقين لسائر الجسد.
……………………………
١/ جواهر التفسير، ج٣، لسماحة الشيخ أحمد الخليلي
٢/ الشيخ محمد الشعراوي
٣/ المعجم الوسيط
٤/ جلسة مع الشيخ عماد الرواحي