من الأمور التي اعتاد البشر على الإيمان بها مقولة: “العقل هو الذي يقوم بطرح الأفكار”، وهذه المقولة قد تأتي بصيغ مختلفة ضمن الثقافات لكنها تؤدي إلى ذات الهدف، وهو تكريس هيمنة العقل على الجسد، وأنه المتحكم بالعمليات التي يقوم بها، فهل المقولة صحيحة أم خاطئة، وثانيا هل المقولة مطلقة أم مقيدة؟
تبدو مقاربة “العقل” كنوع من الانتحار فكيف تضع مصطلحا (فلسفيا – دينيا – لغويا …) على بساط البحث دون المرور بإشكالاته العميقة والحوارات الصدامية التي نشأت حوله، وتم توثيقها في عشرات الكتب بل مئات الكتب إن لم تكن الحصيلة بالآلاف.
هنا إشكالية الكتابة التي سنحاول التغلب عليها عبر مقاربتنا للعقل من وجهة النظر الحياتية والاجتماعية، فالإنسان كما هو متداول “كائن اجتماعي” وهذا لا يعني أنه فاقد للتفكير الفردي، إنما يعني أن الإنسان يسير في سلوكه وتصرفاته وفق مبدأ الجماعة لا الفرد.
بهذه المقاربة عبر الجانب الاجتماعي يمكن إبراز الخاصية الكبرى للعقل وهي القدرة على صياغة خيارات الإنسان، وفق مصلحته، فحينما يرغب المرء في أمر فإن العقل يعمل بالتزامن مع رغباته ومشاعره، وفي ذات الوقت يراعي متطلبات المجتمع المحيط كالعائلة والأصدقاء والعمل وغيرها.
العقل وفق هذه الخاصية ليس مستقلا تمام الاستقلال عن الوجود الاجتماعي، فالحياة تدور حول نوعين من الوجود، الوجود الأول وجود حقيقي فعلي مشاهد ويمكن الإحساس بأجزائه، والثاني وجود رمزي تجريدي متخيل ولا يمكن الإحساس بأجزائه، فعن أي نوع من العقل نتحدث ونحاور أهو العقل الحسي أم العقل الرمزي؟
بطبيعة الحال الحديث حول النوعين من الوجود العقلي، فلا يمكن الفصل بين وظائف العقل، وهنا تقع إشكالية أخرى وخاصية من خصائصه وهي قدرته على الاختلاق والكذب، حيث المتداول منذ القديم مقولة “الحسن ما استحسنه العقل والقبيح ما استقبحه العقل”، وهي عبارة راجت بين المعتزلة قديما ووصلت إلى المباني الفقهية والاستدلالية.
العقل يجمع النقيضين؛ حيث يجتمع في داخله “التفكير الجاد / الخيال الخلاق”، ولا يمكن التفريق بين النوعين؛ إذ سيجد العقل مخرجا للإشكالات المطروحة عليه، عبر التبريرات الاجتماعية أو اللغوية أو الفقهية أو الأدبية، وهي التي تهمنا أكثر وسنكمل حوارنا معها.
ما العلاقة بين العقل والأدبية؟ لا شك أن العقل جزء من أجزاء التكوين لكل أديب، فعبره يستطيع الإدراك والمعرفة وكذلك أيضا يستطيع الاختلاق والكذب، فالعقل ليس صادقا دائما، وإنما هو صادق مع الشخص، أي أنه عقل فردي لا جماعي أو اجتماعي وهو ما يتبدى في الأدب أكثر من أي مجال آخر.
طبيعة الأدب تستلزم الاستعانة بالخيال والكذب والاختلاق ومحاولة إيجاد روابط بين الأمور المتباعدة التي لا رابط ظاهراً بينها، ولو اختفى الخيال والاختلاق سيختفي الأدب بدوره وستتحول حياتنا إلى نوع من الآلية الجافة الفاقدة للمشاعر والأحاسيس بسبب فقدانها لملكة الخيال.
ملكة الخيال اهتم بها القدماء ضمن مباحث الصورة، وأولوها عناية فائقة، إذ اعتبروها رأس الفن الأدبي، وبدونها لا يستطيع الإنسان أن ينتج أدبا قيِّما وذو مغازٍ عميقة، واستمر الاهتمام بهذه الملكة في العصر الحديث حيث ارتبطت بفنون الرواية والشعر والقصة.
الاختلاق والكذب والخيال والأوهام والتهيؤات والأحلام، جميعها نواتج العقل وأحد أدواته في مقاربة الحياة، فالمرء لا يحيا بالعقل الجاد والصارم والعملي، بل هو محتاج للعقل المبدع الفنان القادر على تركيب الصور المعقدة، وتفكيك أجزاء ومفردات ومعاني هذه الحياة التي يحياها ويتواجد داخلها.
هنا أضع دعوة عامة، وهي محاولة الانسلال من الواقعية، ولو قليلا، والانخراط في عالم خيالي، بحيث تنمحي الحدود وتزول الفواصل بين الأشياء، حينها سيكون المرء قادرا على رؤية الأمور بعين مختلفة، ومن يدري، فلعله يتحول ليصبح شاعرا أو قاصا أو أديبا، وحينها سيدرك القيمة الحقيقية لملكة الخيال.