هبت نسماتٌ ريح خفيفة لتزيح عنه بعضاً من الحرارة ولفح أشعة الشمس، رفع شباك الصيد مجدداً إلى سطح قاربه الصغير، ولم يفاجأ حين وجد الشبكة خاوية للمرة العاشرة، لقد خرج للصيد قبل أن تشرق الشمس وها هي ذي تكاد تبلغ منتصف السماء ولم يصطد حتى سمكة واحدة، انحنى ليرفع الشبكة من قاع القارب ليعيد رميها في محاولة أخرى يائسة ولكن قبل أن يفعل ذلك سمع صوت ارتطام خلفه، التفت ليجد سمكة تتقلب في قاع القارب وتضرب بذيلها بسبب اختناقها بالهواء، كيف وصلت إلى هنا؟ هو متأكد أن الشبكة كانت خالية تماماً، اقترب يحدق في السمكة بعينيها المفتوحتين و لونها الداكن الذي لم يسبق له أن رأى مثله في الأسماك، حاول البحث عن تفسير لما يراه و عن كيفية وصول السمكة إلى قاع القارب، لم تكن السمكة قد توقفت عن الحركة تماماً حتى باغتته ضربة مفاجئة بين أعلى ظهره فالتفت مذعوراً ليجد سمكة أخرى تسقط خلفه متلوية، سحابة رمادية كبيرة حجبت أشعة الشمس بينما بدأ شعوره بالتعجب يتحول إلى خوف، لم يمهله البحر ليبحث عن تفسير منطقي إذ شاهد بأم عينيه هذه المرة سمكة ثالثة تقفز من البحر وكأنها قذيفة لتسقط أمامه مباشرة، ثلاث سمكات تحدق إليه بعيون متسعة داكنة اللون أثار منظرها القشعريرة في جسده.
مرت دقائق وهو يقف ساكناً و كأن شللاً ما قد أصاب جسده، زاد تكاثف الغيوم لتحجب ضوء الشمس بينما كان يرقب السمكات الثلاث وهي تكفّ عن الحركة، ازداد تلاطم الأمواج بشكل ملحوظ حين عادت إليه إرادته وتغلب فضوله على خوفه، فهمَّ بالاقتراب من حافة القارب لينظر إلى البحر بأسفله، و إذا بسمكتين أخريين يقذفهما البحر باتجاهه فوقع على مؤخرته وهو يرتجف فزعاً، بدأ القارب يتمايل وصار لعبة بيد الأمواج التي أعلنت بغضب وقوفها ضده في هذه اللحظات الرهيبة، تحفز بذراعيه متوقعاً هجمة أخرى و لكن عدة دقائق مرت ثم بدأت الأمواج بالسكون بينما ظلت الغيوم على حالها.
مرت فترة كافية لتعود نبضات قلبه إلى وضعها الطبيعي فأغلق عينيه و هو يطلق زفرة ارتياح ولكن ما إن فتحهما حتى فوجئ بموجة من الأسفل تقذف بالقارب عالياً في الهواء حتى أحس بأن قلبه يكاد يُنتزع من مكانه ثم يهوي مع سقوط القارب ليرتطم بسطح البحر، تلا ذلك سيلٌ من الأسماك المنطلقة نحوه من أعماق البحر تضرب وجهه وجسمه وتجبره على الانكماش على نفسه، ضمَّ قدميه إلى صدره وأحاطهما بذراعيه وقد انتابته رغبة في الصراخ، دام ذلك بضع لحظات ثم عاد السكون يعم أرجاء البحر من حوله تاركاً إياه يرتجف كورقة في مهب الريح وقد أصيب بجرح دامٍ في شفته العليا، لهاث أنفاسه يوشك أن يتحول إلى نحيب، كانت نفسه تحدثه بأن عذاباً إلهياً قد حلّ به، فوجئ بصوت مدوٍ أشبه بصوت طرقات عنيفة متواصلة قبل أن يدرك أنه صوت دقات قلبه، تذكر جميع الموبقات والسيئات التي اقترفتها يداه طوال سنين حياته التي تبلغ الثلاثين، مر بخياله شريط ذكريات بالشرور التي قام بها، هل هو يُعذَّبُ بسبب تلك الواقعة حين ضرب ابن الجيران و طرحه أرضاً لأنه شك في سرقته لنعاله بدون دليل؟ أم هو بسبب الريال الذي أخذه خلسة من سيارة أخيه بنِيّة إرجاعه لاحقاً ثم نسي أمره؟
ازداد الظلام واشتدت حلكته في حين بدأ قرص الشمس باهتاً خلف السحب السوداء وكأنه قمر دموي أو عين حمراء غاضبة، تذكر أنه لم يقم بدفع حساب البقالة منذ شهرين في ظل تراجع الصيد هذا الموسم، هل بسبب ذلك نزل به العقاب الإلهي؟ زاد من رعبه صوت أشبه بصوت غراب ينعق فتلفت حوله مرعوباً ولم يجد أثراً لأي طير في هذه المسافة الموغلة في البعد عن الشاطئ وعن كل مظاهر الحياة البرية، عاد الصوت يتكرر.. صوت شنيع لا يمت لعالمنا بأية صلة، حاول إقناع نفسه بأنه صوت الرعد، ولكن لا.. إنه يبدو أشبه بصوت عذاباتٍ نابعةٍ من أعماق الجحيم، لم يعد يحتمل كل هذه الأهوال، و تمنى لو يفقد الوعي.
حين خرج من البيت فجراً لم ينتبه إلى حشرة مسالمة كانت نائمة بفناء البيت فداس عليها وسحقها بقدمه، عبرت بذاكرته جميع الأفعال التي اقترفها عامداً أو بالخطأ، صغيرها و كبيرها، حتى تلك التي نسيها عادت إلى ذاكرته بقوة، هو عذاب ونقمة إلهية بلا شك هكذا حدث نفسه، في وسط أفكاره السوداء تلك انتبه إلى أن الهدوء قد عاد ليعمَّ المكان وأن السحب بدأت تميل إلى التلاشي التدريجي، لم يخفف ذلك كثيراً من خوفه بل توقع أن الهدوء سوف يتبعه هولٌ عظيمٌ آخر، انكمش على نفسه ثم حدث ما كان يخشاه، السحب السوداء المحيطة به تحركت متوزعة و كأنها تتحرك استجابة ليدِ رسامٍ من العصر القوطي ثم تشكلت على هيئة سمكة مفترسة، هيئة مخيفة لم يسبق له رؤيتها ولا يمكن أن توجد في عالمنا هذا، صورة تجمع بين فكين رهيبين و قرني شيطانيين وعينين دمويتين وكأن نيران الجحيم تشتعل فيهما.. ما حدث تالياً هو أن ذلك الكائن المريع المرسوم بالسحب زمجر بصوت أشبه بعواء ذئب عملاق ثم انفصل عن السحب منقضاً عليه في حركة مفاجئة جعلت قلبه ينهار، ليتبعه جسده كاملاً في انهيارٍ أفقده وعيه وتركه في وسط ظلام دامس.
حين فتح عينيه كانت السماء صافية والشمس ساطعة تلفح جلده بأشعتها الحارقة وكان البحر ساكناً بصوت أمواجه الهادئة، تلفت حوله في قاع القارب الذي كان خالياً إلا من شبكة صيده ومؤونته من ماء الشرب.. هل كان يحلم؟ يكاد يقسم بأن ما شهده كان واقعياً إلى أبعد الحدود، وما مر به من أهوال في تلك الدقائق لا يمكن لأي حلمٍ أن يصنعه، أحس بألم في شفته العليا فتحسسها ليكتشف الجرح الذي لم تكد دماؤه تجف بعد فعاوده شعور بالهلع رغم رؤيته في الأفق البعيد للشاطئ الذي تحمله الأمواج إليه.