——————————
حمود بن سالم السيابي
——————————
في أمسنا البعيد كانت البيوت صغيرة ، ولمجرد أن تتراصّ الكتب في “روازنها” تشمخ وتتعملق حدّ الاقتراب من السماء.
وكانت المجالس ضيِّقة ولمجرد الاقتراب من “روازن” الكتب يرتقي الشيوخ المنابر فتبدأ مدرسة الإمام الخليلي عامها الدراسي ويطلُّ الشعراء من الدواوين فتنطلق عكاظ والمجنة ودومة الجندل. وكلما أفسحتْ البيوت زوايا للكتب كلما تحسنتْ مستويات الاِضاءة داخلها وتجدَّدَ الهواء وتضوَّع ريح المسك في الدهاليز وعَلِقَ اللبان في جذوع الأسقف وخشب الدرايش والبيبان وقماش الستائر.
وكلما اشْتَقْنا لآبائنا شخَصْنَا بأبصارنا نحو “الروازن” لنصافح أغلفة الكتب فنشم أريج أياديهم على الحواف. ونتدفأ بأدمعهم على الصفحات وقد دحرجها مرورهم على بيت شعر لامَسَ وجعاً لديهم ، أو تدبروا موقفاً نبيلاً لصلحاء السلف فطأطأوا له الرؤوس. ونطالع “تعاريفهم” العابرة للبنادر والسبلات وقد اتخذتْ من دفاف الكتب حافظات أمينة من عاديات الزمن.
ومهما تمادتْ التقنية في الانقلاب على الأمس سترفض الكتب الموت وستقاوم لآخر قطرة حبر وستنتصرْ.
وستظلُّ مكتبة المنزل مقدمة على أرفف التحف ومزهريات الكريستال وأصائص الزرع ، فتلك المقتنيات عرضة للكسر ، بينما من أوجب واجبات الكتب جبر الكسر.
وفي احتفال دار لبان للنشر بعامها الرابع وقف سيد الدار الأستاذ محمد بن سيف الرحبي يفلسف هذا الصمود للكتاب كأنبل ثائر عرفه الزمان.
ومن بشارات هذا الصمود نجاح دار لبان بإمكاناتها المحدودة من إنجاز الكتاب رقم ٢٥٠ إلى جانب عشرة كتب أخرى تحت الطبع لتعمِّق بذلك خسارات الكتاب الألكتروني السادر في غيِّه.
ومن أمثلة البشارات حضور كل الذين وُجِّهَتْ لهم الدعوات رغم تزامن المناسبة مع ليلة الزحف إلى الولايات في عطلة أهداها المطر ، ومع ذلك تناسوا الفرح بعطلة غير مجدولة ليعمقوا الصداقة المجدولة مع الكتاب.
وليجعلوا من إحياء العام الرابع لدار لبان سداد ديْنٍ مستحق تجاه خير جليس.
وقد شَرُفْتُ بحضور المناسبة بدوافع الفرح بأن الحياة ما زالت جميلة بكتاب يرفض الموت.
وأن الكتاب كان وما زال وسيبقى الصديق الذي لا يُمَل.
وأن روائح المداد ستظل تنافس العود الكمبودي وخلاصة الشذا الفرنسي على “فراريخ الدشاديش”.
ومع آخر هزَّة فنجان كانت الشوارع ما زالت تخلي مسقط لتملأ الولايات ، بينما عدتُ من المناسبة إلى مسقط بإضمامة كتب أملأ بها حيِّزاً قد تمتد يدي لها اليوم.
وربما في الغد.
وربما أحد الذين يتدثرون تحت نفس السقف سيسبقني إليها.
وسأظل أردد أن “دار لبان” هبة همَّة عالية لصنع المستحيل.
وعنوان إصرار شخصي بالاستمرار.
ومن أرفع أمثلة الصمود في معركة البقاء.
وأن “الحي يحييك والميت يزيدك غم”.
2.12.0.0