السياحي
اللون الأسود يضيف الدهشة للبلطيق والعمق لزرقة بحر الشمال
تختال سمراوات هامبورج في منكبيك شتراسيه فتسافر الذاكرة نحو الأميرة سالمة كأجمل سمراء عربية عشقها الألمان. وتطاول القامات السمر أعمدة الإنارة في الشتايندم فيقفز إلى الذهن تيبوتيب وروماليزا كمحاربين عمانيين دوخا الألمان واحترمهما الألمان.
ورغم مضي قرابة مائة عام على مواراة الثرى لأجمل قصة حب في أسلدورف ما تزال هامبورج تتذكر قوام الأميرة وشالها وقبقابها وفصوص خواتمها.
زار بيت أفريقيا واستنطق جدرانه:
حمود بن سالم السيابي
وبالتوازي مع نفس تلك الفترة ترك الالمان بر القرنفل في الشرق وسواحل الذهب في الغرب بعد أن اقتسم الحلفاء الأراضي والنفوذ والتجارة والملاحة وعاد المغامرون الهامبورجيون من إفريقيا السوداء إلى أليستر شوقا لأسماك «الدورادو» وكفتة «الفريكاديل».
إلا أن إفريقيا السوداء لم تطو صفحتها فالأفارقة نشروا الأشرعة ووجهوا الأسطرلاب نحو البلطيق وبحر الشمال ليقتسموا ماتبقى من العمر مع سراق أرضهم وقتلة أحبائهم لتصدق فيهم مقولة القط يحب خانقه تماما كما عشق اليابانيون الأمريكان الذين جربوا فيهم ولأول مرة في التاريخ البشري السلاح النووي ومع ذلك داس اليابانيون على الرماد الذري وتناسوا الطيار الأمريكي لول تيبيتس الذي اقترف بأمر بلاده جريمة إلقاء القنبلة النووبة ليتذكروا «إلفيس بريسلي ومايكل جاكسون وبروك شيلدز ومارلين مونرو والماكدونالد والكنتاكي والكوكاكولا».
أقترب من «ألشتاد» المعتقة في الزمن الهامبورجي الغائر في القدم فأتوقف عند بيت إفريقيا الواقع في ٢٧ شارع «جروس ريشنشتراسيه» والذي ما زال بنفس الاسم منذ تشييده عام ١٨٩٩ كمقر ملاحي للسفينة «أدولف وويرمان» العاملة بين هامبورج ونيجيريا وليبريا وغينيا الأسبانية التي تغيرت إلى غينيا الإستوائية.
لقد تبدلت الجغرافيا السياسية وتغيرت المواقع وتنقلت السفينة من مالك يحمل عليها العاج والقرنفل إلى آخر ينقل الرقيق إلى ثالث يحمل عشاق اللون الأسود والابتسامات البيضاء.
وتناوب على دفتها القباطنة والنواخذة وأمراء البحار الى أن رست في القواعد البحرية النازية لتعزز أسطول ألمانيا النازية في حربه مع الكون.
إلا أن بيت إفريقيا الشاهد على التاريخ مازال في مكانه وعلى حاله منذ صممه مارتن هولر وهو ذاته مصمم المبنى التاريخي لبلدية هامبورج ومبنى القنصلية الأمريكية بهامبورج.
ما يزال بيت أفريقيا باذخا ويعكس أبهة الحضور الألماني في سواحل إفريقيا الشرقية والغربية قبل أن يقبل بسمارك التسويات، وقبل أن ينصاع النازيون للحلفاء ويتجرعوا مرارة كأس الحرب العالمية الأولى.
يستوقفني عند المدخل تمثال من البرونز لمحارب إفريقي وقد سكبت عليه هامبورج مطرها طوال مائة عام فازداد اخضرارا وصلابة.
يمسك المحارب بشماله ترسه الممتد إلى قدميه وكأنه يتكئ عليه بينما يشهر سيفه في وجهي بيمينه دون أن أجدف في بحار الثقافة الإفريقية لأعرف ما إذا كانت تلك تحية سوداء منه أم غضبة إفريقية لمجيئي.
أشرئب نحو التمثال الفولاذي فالألمان الذين يتعشقون العنفوان اختاروا محاربا من أرض الخصم لينصبوه رمزا للإجلال والاحترام.
أمشي تحت صباح حجري يؤدي لبوابة من الفولاذ الأسود تنتهي بقوس يتلألأ بأحرف «وويرمان» المعشقة بالنحاس الأصفر.
وتحت القوس تتمدد دفتا البوابة وكل دفة تنقسم إلى جزأين، الأعلى عبارة عن أعمدة تتوسطها نارجيلة ضخمة مثقلة بالعذوق بينما يتشكل الأسفل على هيئة يمثل سببيكة من الفولاذ ترمز للأرض وقد تم تعشيق السبيكة بجذور النارجلتبن.
أدخل البوابة ملوحا لسعفات النارجيلتين فتبدأ تفاصيل المبنى المكون من قسمين يتوسطهما فناء مفتوح وقد حمل الأول اسم بيت أفريقيا واختاروا للثاني اسم بيت الفيل.
لقد تحول القسمان إلى مجمع لعدة شركات تحمل إحداها اسم السفينة القديمة وإن تغير النشاط التجاري.
بينما استأجرت احدى الشركات الفناء وحولته إلى مطعم.
أقلب في فضول قائمة الطعام التي شدتني بغلافها السميك المصنوع من جلد إحدى الأبقار التى ترعى السافانا لعلني أجد «المهوجو الزنجباري وعصيدة الموز أو عصيدة الذرة الصفراء الأوغالي أو المتشيمشو أو نياما تشوما» إلا أنني صدمت بأسماء لوجبات ألمانية وإيطالية وأمريكية تراوحت بين البرجر والهوت دوج وفيليه السمك ولحم الخيول والباستا الإيطالية.
أمشي نحو بيت الفيل المحروس بتمثالين لفيلين أفريقيين يقفان على منصتين من الإسمنت الأسود وهما يمدان نابيهما باتجاه الزمن الذي كان، ويحنيان خرطوميهما ترحيبا بالزوار الذين يصنعون زمنهم.
وفوق البوابة جدارية من الفسيفساء تجسد الشانبا الإفريقية بأشجارها الإستوائية وغاباتها المطيرة.
ما تزال أفريقيا هنا ببيت أفريقيا في هامبورج بخرزها ووبرها وطبولها وتمائمها وإن خرج الألمان من ممتلكات السلطان برغش، وإن طوى الموت تيبوتيب وروماليزا.
وقبل أن أترك بيت أفريقيا أودع الأحرف النحاسية الصفراء لـ «وويرمان» وألوح لتمثال الرجل المحارب، لأستقبل إفريقيا التي تحضر بقوة في النسبج الهامبورجي.
أترك شارع «جروس ريشنشتراسيه» وبيت أفريقيا لأواصل التطواف في هامبورج القديمة فيقترب مني نهر الألبا المتداخل مع ملح بحر الشمال فأمشي على صخب الموج والحمالين ونعيق الغربان لأبحث عن النصف الأسود لهامبورج أو هامبورج الإفريقية، وأتتبع البهاء الذي يضيفه اللون الأسود على محار بحر الشمال وقواقع البلطيق.
أقترب من كنيسة جاكوب أو يعقوب حيث تواصلَ مبشروها ذات زمن مع المبشربن من سائر كنائس هامبورج مع كنائس الأحباش وساحوا معا في المجاهل السوداء يحملون دلايات لصلبان من خشب ويراكمون بتعليقها على رقاب الإفريقيات مع قلائد العاج والعظام وأسنان التماسيح والثعابين.
أدخل متجرا قبالة جاكوب مفعما بروح أفريقيا وتمردها فأتوقف عند أقنعة لوجوه سوداء وتماثيل لزرافات خشبية وفيلة وحراب أشبه بحراب الماساي.
وأقرأ بجانبه لافتة لمتجر آخر للإكسسوارات الفضية ودلايات الخرز والتمائم الإفريقية.
وأزحف نحو الشتايندم حيث أفريقيا المتمردة تتحرك هناك وتحترب مع نفسها، بل وتنتحر في أزقة السان جورج العتيقة وهي تتعاطى الحشيش وتتبايعه في ميدان «هانسبلاتز» وسط اندهاشي بأنهم عبروا كل البحور ليسفحوا زهرة العمر من أجل لفافة حشيش تجعلهم يضحكون ويضحكون ويضحكون على خيبات وانكسارات الأيام.
إلا أن هذا التصعلك في «هانسبلاتز» هو ليس إفريقيا، ولا الذين يحتشدون خلف محطة الباصات لأخذ الجرعة التي توزعها هامبورج لضبط جموحهم.
ولا الذين يصطفون كل أصيل عند بوابة «كاشتاد» ليأخذوا الحسنة اليومية من الجمعيات الأهلية من مشروبات ساخنة يصارعون بها البرد، وفطائر ليمضغوها طوال ليالي الشتاء.
ولعل أجمل مظهر يعبر عن إفريقيا الحقيقية في هامبورغ هو ذلك الذي يلون الشتايندم صبيحة عيدي الفطر والأضحى، ففيهما تخرج أفريقيا بكامل زينتها وألوانها وثقافاتها وعطرها وبخورها وخرزها لتمشي في «الشتايندم» أو تستقل القطار إلى حيث يسكن أحبابها لتقاسمهم فرحة العيدين، أو تنتشر في حدائق ومتنزهات البلدة بأزيائها الزاهية التي تباهي زهو الزهور وتضاحك النوافير.
أركب مع سائق الأجرة المرابط دوما في مواقف بارك حياة الغاني «سَنيْ» المسيحي القادم منذ أربعة عقود من أكرا عاصمة ساحل الذهب لينعجن بالحياة ويجاهد لكسب الرزق في ضفاف بحر الشمال.
لقد اختار «سَنيْ» هامبورج كأول ساحل رست سفينته عليه رغم أن لندن عاصمة الإمبراطورية العجوز التي لا يغيب عن علمها الشمس كانت الأقرب مسافة إلى أكرا من هامبورغ ب٣٠٠ كيلومتر، وكان الإنجليز وما زالوا الأقرب للثقافة الغانية كونهم استعمروا ساحل الذهب، وهذه الإنجليزية الفصيحة على لسان «سَنيْ» هي خلاصة ستة عقود من الإستعمار.
إلا أنها قسمة الحياة كما يقول «سَنيْ» ولذلك أنا هنا لأشرب من الألبا وأليستر وأصوِّت لحزب المستشارة إنجيلا ماركل.
كانت وجهتي بالسيارة مع «سَنيْ» إلى مقبرة أوسلدورف، وكانت الأميرة سالمة حديث الطريق إلى رخامة قبرها.
أسأل «الملك المحارب» وهو المعنى لكلمة غانا، عن السر لقطعه سبعة آلاف كيلومتر من ساحل الذهب إلى ضفاف الشمال من أجل أن يمضي كل العمر خلف عجلة قيادة سيارة أجرة وهي وظيفة متوفرة في بلاده فقال :كان بإمكاني أن أشتري سيارة في أكرا وأعمل عليها إلا أنني جئت يافعا ومعي أحلامي ولم أشعر بالسنين وهي تكر، فدرت مع دوران دولاب الحياة، لأصحو وقد حرقت كل مركبي وتماهت خطوط الرجعة.
وبينما أصابعه تعبث في قرص لأغنية «بريبي يايامي» للمطربة الغانية «فيلدا» قال وهو يخفض صوت فيلدا: نحن نشكل نسبة لا بأس بها في اللون الأسود الذي يتوازن والألوان هنا مع إخواننا الأفارقة في شرق ووسط وغرب القارة.
ونشكل مع بقية الأعراق المهاجرة حضورا لافتا في الحياة.
ورغم بعد المسافة مع بواكير هجراتنا إلا أننا ما زلنا نقدس ثقافتنا.
لقد جئنا إلى هنا منذ القدم ومعنا قرآننا وأناجيلنا ومدارسنا فأبقينا على لغتنا في البيت وما زالت رائحة أفريقيا في مطابخنا.
وبين فترة وأخرى نزور بلداننا لنجدد التواصل مع الجذور ولنشحن روحنا بالوطنية.
إلا إن إغراق أوروبا بالعرب الفارين من البؤر الساخنة قلل من تقبل أوروبا للمزيد من الهجرات الإفريقية.
أتذكر كلام «سَنيْ» كل مرة أخرج فيها من الهوبانوف حين تتلقفني خيمة إفريقية كبيرة عند مدخل الشتايندم وحشود سوداء ولافتات غاضبة تستنهض الساسة الهامبورجيين عن الأوروبيين الذين امتصوا دم أفريقيا وحين تعافي أخذهم البطر فركلوا المتبرعين.
أجلس في مقهى «أوشين سفن» في «البوروباساج» أحتسي قهوتي السوداء وعلى مد البصر «أليستر» فتأخذني رائحة القهوة إلى صخب جلساء أفارقة يضيفون للموزاييك الهامبورجي الألق والحيوية والتنوع.
لعلها من مدغشقر قلت للنادلة وأنا أرتشف الجرعة الأولى فقالت هي قهوة أفريقية دون تحديد وقد تكون الكاميرون.
ثم أردفت: وهي مرة وسوداء على كل حال.
يتداخل في الحديث أفريقي في الجوار فيرفع فنجانه محييا «أميجو» فأرد عليه بتحية الإسلام.
يقترب مني نيجيري مسلم فنستعيد في رغوات فنجانينا أفريقيا المسلمة وقباب مساجدها وعمائم رجالها وحبات المسابيح.
يقول أحمد النيجيري أن اللافتات المرفوعة في الشتايندم قد تكون صحيحة في غضبتها من أوروبا بل من ألمانيا عدا هامبورج فهي طول عمرها مدينة متصالحة مع جميع الأعراق والديانات.
ولعلك ترى في شوارع المدينة كهولا من السود يقترب بعضهم من التسعين عاما ولك أن تستغرب أن هؤلاء ولدوا هنا ولم يلحقوا بالمستعمر أثر اندحاره من بلداننا.
وكما أن الأوروبيبن أسرجوا الحلم باتجاه الجنوب نظر الأفارقة إلى القارة العجوز في الشمال فأبحروا إليها ضمن حركة البشر في الكون. ولعل الصيحات النشاز التي تعلو وتخفت هنا وهناك مردها لتصرفات وانفعالات فردية جعلت من بعض الساسة يستغلونها لمغازلة التيارات اليمينية المتطرفة التي تدعو إلى إعادة الملونين وإغلاق دور العبادة وتطرح الرهاب الإسلامي كفزاعة لتمرير نزعاتها الشوفينية.
ونحن في هامبورج لا نرى انفسنا غرباء بل شركاء في صياغة الحياة.
ولا يربطنا بهامبورج الجواز الألماني بل الانتماء للمكان.
وإذا كنا نعول على الأعراق والجذور فإن الكثير من الهامبورجيين البيض ليسوا من أصول هامبورجية بل نزحوا إليها من الشمال الإسكندانافي إلى جانب الهجرات المتحركة من شرق ووسط أوروبا.
ونحن مع هامبورجيتنا نتمسك بثقافتنا وديانتنا وهذا ما تعلمه إيانا الروح الهامبورجية والتعايش والوئام.
وعند الثمالة الأخيرة لفنجاني المر أترك أحمد النيجيري باتجاه بوابة «اليوروباساج» فبوابة «كاشتاد» فالساحة التي تنتهي بمسرح «ثاليا» وانتهاء «ببارك حياة» لأرقب مرتبة الغرف النيجيرية ميري وهي تلف بملاءات الأسرّة الأطفال الخليجيين وتحزمهم خلف ظهرها كما تفعل قاطفات ورق الشاي والقطن وهي تفرقع الضحكات في الممرات.
وميري هي قصة هامبورجية أخرى فهي مسيحية من أبوين مسلمين، تعرفت على نيجيري مسيحي في هامبورج فتزوجته.
وحين سألتها عن ذلك قالت كنت مسلمة ولم أكن متدينة فلا يفرق معي إن تزوجت مسلما أم مسيحيا. وعن رد فعلها أبيها وأمها قالت إن أبويَّ في العاصمة أبوجا وقد استشاطا غضبا عليَّ، ولكنهما ما لبثا بعد حين أن رضخا للأمر الواقع.
ولكن الحميمية التي كانت بيننا قد انتهت فأبقينا على الحد الأدنى على الأقل من جانبي.
وبينما يوشك المساء أن يتثاءب والساعة تقترب من الثامنة والمتعبون من النهار يخرخشون أقفال المحلات ليقفلوها تدخل كوكبة سوداء متجرا في الشتايندم لتتبضع رؤوس السمك وكراعين الثيران ولسان الأبقار فما تزال إفريقيا تحن لإفريقيا.