الثقافي
سفرٌ أنا
فتحية الفجرية
على مصطبة ناصعة البياض، ومكتبة ذات أرفف ملأى بالكتب وأدراج محشوّة بالورق الأبيض الذي ينتظر نصاً مدهشاً أو نصاً رديئاً، كرسي دَوَّار ذو شبك قرمزي وقاعدة سوداء، مصباح عارٍ معلق في السقف، يسلط ضوءه على جزء من الغرفة، سكون إلا من صوت الجدجد ونُباح الكلاب، في هذه الليلة برد قارس ينخر العظام، أجوب البيت بملاءةٍ صوفية، وجوارب مملوءة بالرسوم، لإحضار كأس من الشاي أو القهوة.
جلست بعدها لمحاولة كتابة نص بعد عزلة هربتُ فيها من براثن الرَتابة المميتة، مع مجموعة كتب أبحرت بي إلى حضارات عتيقة، إلى عوالم ومدن وأروقة، اجتزت فيها حدود العصر والزمان، كما جبت البحار والمحيطات مع السندباد وأسد البحار “أحمد بن ماجد” و”ابن النعمان”، ومررت بآخر ممتلكات الإمبراطورية العظمى فيما وراء البحار “جوادر”، غطست في بحور الظلام وغياهب المجهول حيث جِنّيَّات البحر الحسان بوجوههن المضيئة كالبلور، وأعينهن كحبّات الفيروز، تعرفت على رموز هذه البلدان من ملوك وسادة كرام، وسلاطين وموالي عظام، تَمعنتُ في الأساطير والإمبراطوريات، وأديرة الرهبان ولجت إلى القصور و”الحرملك” والدواوين، جلست على مقربة من التكيات الصوفية، تِهت بين الدروب وشواهد القبور، طفتُ بين الأضرحة، زرت الحوانيت وأسواقا مُتضوعة برائحة خشب الصندل والقُرُنْفُل والكهرمان، ترزح بالسجاجيد والتحف، كسوق القيصرية وشوارع الحرفيين والسباطين، جبت بغداد، وتركيا حيث قونية، وأندلس العرب حيث الحمراء وغرناطة وقرطبة، سُحرت بالأقبية والأبواب المنقوشة بالإزميل، اتكأت على تكيات الصوفيين لأصيخ إلى حديث العارف الشاعر المتصوف شمس التبريزي المعلم الروحي لجلال الدين الرومي، وذهلت بالرؤى وقواعد العشق الإلهي التي حَاكَها شمس.
تِهتُ في جمال النصوص غرقت في لُجِّها، أصوات الحضارة، صدأ التماثيل البرونزية، جدران الكاتدرائيات العتيقة، أجراس الأديرة القديمة، طرقات تضج بالمارة صباحاً، تغفو وتهجع عند الغسق، جمال وغموض، أجدني مطوقة بملايين الصفحات والأرواح، أجدني أسافر “ما إن أصل لوجهة حتى يتجدد في دمي الترحال” لرواية أخرى، فأُمسك بِنُدَف الثلج تارة وتارة تداعب أصابعي خرير نهر “بردى”.
ومن النادر ندرة الياقوت أن أنام عن رواية، كل الروايات سلبت لب قلبي، وجدتها تسحبني معها كممسوس، أجدني أجوب الأسواق والأزقة وأستمع إلى أحاديث وتمتمات، حوار يَقْطُر أدبا، موشحات أندلسية، وأغانٍ أناضولية قديمة تنبعث وسط أصوات الضحكات والموسيقى والثرثرة في الحرملك والدواوين، صوت كيس مخملي ثقيل مليء بالنقود الذهبية مرمي بعد رقصة صوفية حضرها حاكم البلدة، صوت الزغاريد الآتية من البيوت الشامية وخشخشة أساور عروس جديدة، تحضرني الوجوه الممتعضة والمكفهرة والموجومة، كل ذلك السحر يصل إلى روحي وقلبي قبل عيني.
بعدها أغط في سُبات عميق، فيما الليل الحالك يذوب خلف زجاج النوافذ.