وحده الحب الذي لا يحتاج إلى تبرير، لكن يمكن التعبير عنه.. بما يشبه فعل الحب ذاته..
ووحدها الكويت يمكنني التعبير عن حبّها دون إحساس بالحرج، فثمة بلدان إن مدحتها فأنت متهم في ذمتك المالية على الأقل.. أو المبالغة في الاختلاف عن آخرين، يبتعدون عنك أميالا عمّا ترى. الكويت السبّاقة إلى المحبة، الممدوة يدها بالعطاء والإبداع والجمال، وقد أحزننا فراق صباحها، كما أحزن أبناؤها الباكين على فقد أبيهم، أمير الإنسانية، وكما شاركونا الحزن على فقيدنا، والدنا، سلطان السلام، قابوس بن سعيد، طيّب الله ثراهما. أحببنا الكويت وصباحها لأنهما صوت الحضارة الذي وجدنا فيه عمقا يقارب بيننا، حيث الأيادي البيضاء التي كانت تغرس الرحمة والتسامح، متمسكة بقيم الإنسانية، وقوامها ”احترام الآخر”، كويت الثقافة والعطاء، والقلوب التي تتلقفنا محبة منذ أن نضع خطوتنا الأولى على ترابها، فنشعر بأننا، كعمانيين، نسير بين أهلنا، محفوفين بابتسامات التقدير. وعرف جيلنا الكويت عبر منابر عدّة، وقد كانت مهجرا للكثيرين من العمانيين، لظروف الحياة في مرحلة قبل السبعينيات، ومنهم، وقد تلقوا التعليم في مدارسها، من عاد ليكون إضافة لحركة التنمية في البلاد.. في الكويت كانت بدايات تجارب عمانية شتى، في الصحافة مثلا (جريدة الوطن) وفي الرياضة مع عودة إداريين ولاعبين أسسوا أندية في السلطنة، بما امتلكوها من خبرات عرفوها في مهجرهم (وطنهم).. الكويت. حينها.. كان صوت “إذاعة الكويت” حسّا عروبيا يسري عبر الأثير المتاح له، في بقعة بدأت تفتح أعينها على جهاز يسمى مذياعا، وكان تلفزيون الكويت منارة رائدة تفتتح حكايات ظهور الشاشات الصغيرة في البيوت التي كانت تتحسس العتمة على ضوء القناديل، برائحة “الحل تراب”، ذلك قبل أن تفيض الآبار بحلّها الأسود، وبكثافة غيّرت وجه الحارات وكثبان الرمال المتطايرة في موسم “الطوز” على وقع رياح “الخماسين”. ولأني، وحيث يمكن وضعي في خانة المحسوبين على الآداب والفنون، فإن الكويت تمثّل لي رصيدا هائلا من المعرفة في محيط جفاف صحراء الربع الخالي، وتبدو في شبه الجزيرة العربية كمنارة لا يعلى عليها، وقبل أن تفتح بلدان المنطقة أعينها على عصر حديث مكتوب بلون النفط الأسود كانت الكويت شعلة معرفة، فاتحة مدارسها وجامعاتها لأبناء الخليج، وكانت مجلة “العربي”، وما زالت، رسالتها الحضارية السامية الأشهر لكل عربي من المحيط إلى الخليج، بجوار عشرات الآثار الآخرى، كتلك التي تثمر كل حين تحت مظلة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.. كمثال. الكويت هي صوت المسرح والدراما في منطقة كانت لا تعرف جهاز التلفزيون إلا في بيوت النخبة والأثرياء، هي الأثر الفني لأبي الفنون الذي أينع مع عبدالعزيز السريّع وصقر الرشود، وتعملق مع قامات كحسين عبدالرضا، وبقي بذاره يسقي جفاف تلفزيونات الخليج بعشرات الأعمال، على الخشبة، أو عبر الشاشة الصغيرة، والتي كان الفنانون الكويتيون أبطالها الرئيسيون، مهما بدت التجارب الأخرى تنمو على مهل، إنما مستفيدة من إرث أبناء الكويت الفني في صنع أعمالهم، عشرات الأسماء تحفظها الذاكرة الدرامية في الخليج زيّنوا شاشاتنا الفضية طويلا، منذ أن وعينا على معنى تلفزيون. وفي “وطن النهار” لا يغيب الصباح أبدا، فكل نهار كويتي له أكثر من صباح يضيء قناديل شمسه، فتلقى الكويت وطنا للمحبة والثقافة والفنون والعطاء الإنساني المتواصل. فإلى جنّات الخلد أيّها الصباح الخالد، وحفظ الله الكويت، أرضا وشعبا.