مقالات
هل سكت ديك علي شريعتي عن الأذان؟!
زاهر المحروقي
في تفسيره للآية الكريمة: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}(١) يقول ابن كثير: «أي نادِ في النّاس بالحجّ، داعياً لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب كيف أبلغ النّاس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ»(٢). هذا المشهد البسيط والقصير والسريع، يحمل دلالاتٍ كثيرة، ربما أهمّها أنّ على الإنسان حاملِ رسالة ما، أن يُخلِص في عمله، وألا يتعجّل النتيجة؛ فعندما يكون الغرس صحيحًا، فإنّ الثمار ستأتي ولو بعد حين. وهذا ما حدث فعلاً من نداء النبيّ إبراهيم، عليه وعلى نبيِّنا الصلاة والسلام، للناس بالحجّ. فها هي الملايين تحجّ بيت الله الحرام، مستجيبةً لذلك الأذان، الذي لم تسمعه بأذنها.
والواقع يحدِّثنا أنّ كثيرًا من المصلحين ذهبوا عن الدنيا قبل أن يروا نتيجة أعمالهم ودعواتهم؛ إذ أنها تحقّقت بعد مغادرتهم هذه الحياة. بل إنّ كثيرين منهم دفعوا ثمنًا غاليًا لدعواتهم إلى الإصلاح والتغيير؛ وفي ذهني الآن السبعون شهيدًا من الصحابة الكرام الذين استُشهدوا في غزوة أُحد، بين المسلمين ومشركي قريش في العام الثالث للهجرة؛ فبفضل تلك الكوكبة من الشهداء وما قدّموه من أرواحهم ودمائهم انتشر الإسلام. وهم في مرقدهم تحت ذلك الجبل، لا يعلمون أنّ الإسلام انتشر في قارات الأرض كلها، وأنّ تضحيتهم تلك كانت من الأسباب الرئيسية التي أدّت إلى انتشار الدين الإسلامي.
نتعلّم من نداء النبيّ إبراهيم عليه السلام، أنه يجب على الناس – والمصلحين خاصة – أن يُخلصوا أعمالهم لله، وأن تكون نيتُهم خالصة للإصلاح دون خلط ذلك بالمكسب الشخصي أو الاستعجال في النتائج، وأنّ أيَّ عمل عندما يكون خالصًا لله، ويُقصد به مصالح النّاس، فإنه سينجح ولو بعد فترة من الزمن. وهناك نقطة أخرى أساسية، وهي أنّ من يتصدّى للدعوة والإصلاح والعمل العام فإنّ عليه أن يكون مستعدًا دائمًا للتضحية في سبيل ما يؤمن به؛ فكم من المصلحين دفعوا من حياتهم وصحتهم ومالهم ثمنًا غاليًا، لأنهم أرادوا أن يُنيروا الطريق للنّاس، ويوقظوهم من سباتهم، حتى يعيشوا بكرامة ويموتوا في كرامة، إلا أنهم – رغم ما عانوه وكابدوه – كسبوا الأبدية والخلود.
ويشير المفكر الإيراني علي شريعتي في كلمات موجزات إلى المصير الصعب الذي ينتظر مَنْ يوقظ النّاسَ من سباتهم، عكس من يفكر فقط في ملء بطنه.
يقول شريعتي:
«سألتُ صديقي: لِمَ لا يصيح ديككم؟!
قال: اشتكى منه الجيران.
لماذا؟!.
لأنه يصيح فيزعجهم فذبحناه.!
هنا فهمتُ أنّ كلَّ من يوقظ الناس يُقطع رأسه. يَتداول النّاس اسم الدجاج، ولا أحد يذكر الديك. لأنّ الجميع يفكِّر بما يملأ بطنه، ولا يفكِّر بمن يوقظه من سباته».
وإذا ما تأملنا هذا الكلام البليغ سنجده ينطبق على شريعتي نفسه. فقد انشغل بإيقاظ النّاس من سباتهم، رغم علمه بالعاقبة الوخيمة، ومع ذلك استمر في «أذانه» وفي إيقاظ النّاس، حتى لقي مصير الديك الذي يتحدّث عنه.
يقول علي شريعتي عن رسالته وعن مهمة الديك في إيقاظ النائمين:
(وأنا الذي أردتُ أن أكون مؤذّناً وداعياً لديني، لا أضحِّي بالحقيقة من أجل المصلحة أبدًا؛ ولا أستسلم للنظام الحاكم على «الصحراء»؛ ولا أشارك الجميع في معزوفتهم وأعزفُ على منوالهم معزوفة الزمن الرتيبة المتكررة.. دائماً شعرتُ بأنّي ديكٌ يصيح في غير وقته المعتاد، يرفع عقيرته في جوف الليل فجأة، ويصرخ منوِّهًا بشروق الشمس وغروبها.. وقد قامت السنن منذ آلاف السنين على شؤم هذا الديك ووجوب ذبحه وقطع أوداجه، لأنه ينادي في الظلام المطبق.. مبشرًا بالصباح؛ وينبئ عن الشروق في منتصف الليل، ويكسر صمت «الصحراء» الآمن بصراخه، ويُقلق وداعة القرية وهدوءها الراكد، ويُربك النوم الهانئ، ويوقظ النّاس من نومتهم الهانئة المريحة في أحضان الليل، وقد تلفعوا بأغطيتهم البيضاء التي جعلت الليل كالكفن)(٣).
***
لستُ هنا بوارد التعريف بعلي شريعتي؛ فهو أشهر من أن يُعرّف، ولكني أركز على بعض سيرته هنا، لأنه قرن بين القول والفعل، ودفع حياته ثمنًا لما يؤمن به؛ هو من مواليد إحدى قرى محافظة خراسان بإيران لأسرة متدينة. أبوه تقي الدين شريعتي كان أحد المجدّدين، والمحاربين للتقاليد والطقوس والممارسات والخطابات الخرافية التي كانت تُهيمن على التديّن الشيعي في النصف الأول من القرن العشرين. ولأنّ هذا الشبل من ذاك الأسد – كما يقول المثل -، فقد ورِث عليّ اهتمامات أبيه، إذْ وُصِف بأنه «كان طالبًا مسلمًا حركيًا نشيطًا»، انضم إلى جناح الشباب في الجبهة الوطنية، وهو ما يزال بعدُ صبيًا، ثم بعد سقوط رئيس وزراء إيران السابق محمد مصدّق، في انقلاب عام 1953، انضمَّ شريعتي إلى حركة المقاومة، ممّا أدى إلى اعتقاله لمدة ستة أشهر.
ويذكر الكاتب عصام حمزة في مقال استعرض فيه خمسةً من كتب المفكّر الإيراني، أنّ شريعتي «كان ما يزال طالبًا في كليّة الآداب حين أسّس اتحاد الطلبة المسلمين، ثم بعد تخرجه تحصّل على منحة لدراسة علوم الاجتماع وعلم الأديان في السوربون في فرنسا، حيث بدأت إحدى أخصب المراحل في حياته. في فرنسا، لم تكن لتلك النار التي اشتعلت في مشهد أن تنطفئ، فقد احتك علي شريعتي مباشرة بالحراك النشِط المضاد للاستعمار الذي شهدته باريس في تلك الفترة، فتعاون مع الجبهة الوطنية لتحرير الجزائر، وقرأ لفرانز فانون وترجمه إلى الفارسية؛ ثم أسّس حركة الحريّة لإيران في الخارج، وتعرّف على فيلسوف الحريّة الفرنسي سارتر، وغيره من أكاديميي ومفكري ومستشرقي تلك الفترة؛ مثل لويس ماسينيون، وجاك بيرك، وعالِم الاجتماع جورج غورفيتش، وأدّى خروجه لإحدى المظاهرات للتضامن مع الرئيس باتريس لومومبا، أول رئيس منتخب للكونغو – اغتالته المخابرات البلجيكية – إلى اعتقاله مدة وجيزة من الزمن»(٤).
ويضيف حمزة أنه بعد حصول شريعتي على درجة الدكتوراة في علم الاجتماع وتاريخ الدين الإسلامي «قفل عائدًا إلى إيران، حيث تم اعتقاله على الحدود وأُودع السجن فترة من الزمن، ليعمل بعدها مدرسًا في جامعة مشهد. لم يكتفِ شريعتي بدوره التثقيفي في الأطراف؛ فاتّجه إلى المركز في طهران، وافتتح مع مرتضى مطهري، حسينيةَ الإرشاد، وألقى فيها محاضرات مثّلت خلاصة فكره في القضايا الاجتماعية والسياسية والدينية المختلفة، وجذبت إليها آلاف الحضور وتمّت طباعتها ونسخها وتوزيعها، وتجاوزت مبيعاتها العشرين مليون نسخة.
أقلق السلطاتِ الإيرانيةَ هذا الانتشارُ والتأثير الكبير والمفاجئ، فأغلقت الحسينية واعتقلت علي شريعتي مع بعض طلابه لمدة عام ونصف، ثم أفرجت عنه بعد تزايد الضغط الشعبي وتدخّل المسؤولين الجزائريين، وسمحت له السلطات الإيرانية بمغادرة البلاد إلى لندن، حيث لقي حتفه في 22 من يوليو 1977، بعد ثلاثة أسابيع فقط من وصوله إليها، بما قالت السلطات البريطانية إنه نوبةٌ قلبية؛ ولكن الرأي السائد أنّ المخابرات الإيرانية «السافاك» هي التي اغتالته بالطريقة التي اغتالت بها العشرات من المعارضين في الخارج»(٥).
ويبدو أنّ شريعتي كان يشعُر بما يُدبّر له، أو لعله الإحساس بدنوّ الأجل. فقد كتب رسالة لابنه قبل شهر فقط من وفاته، قال فيها: «..لا أعرف ماذا تخبئ لي الأيام، وأيّ دور كتب عليّ في أداء رسالة الله العظيمة، ولكني واثقٌ بأنّ لي دورًا لم أتممْه بعد، وإلا فكيف ما أزال حيًّا أرزق، بينما كان يجب أن تكون عظامي قد بليت سبع مرات إلى حدّ الآن»(٦)، ويضيف: «أحيانًا أقلق. أخشى أن تضطهد السلطة أطفالي الصغار، ووالدي الشيخ المريض. ولكن مهما يحدث، فإنه في سبيل الله؛ والمرء حين يتّخذ لنفسه سبيلا، ينبغي أن يستعدّ لكلِّ الاحتمالات، وأن يسير إلى النهاية حازمًا مصمّمًا مثل الكركدن»(٧).
منعت الحكومة الإيرانية دخول جثمان شريعتي ليدفن في مسقط رأسه، فاضطرت عائلته ومريدوه إلى دفنه في مقبرة المغتربين المتاخمة للروضة الزينبية في سوريا. ظنّت حكومة شاه إيران محمد رضا بهلوي، أنها تخلّصت من أقوى خصومها، ولكن لم يدر بخلدها أنّ طلبة هذا المفكّر الإيراني ورفاقه سوف يُسقطون العرش الشاهنشاهي، بعد سنتين فقط من اغتياله، ويخرج الشاه من طهران ومعه حفنةٌ من تراب إيران لكي يشمه في منفاه الأخير.
وإذن؛ فقد هيّأت أفكارُ علي شريعتي وكتبُه ومحاضراتُه، الأرض في إيران لقيام الثورة الإسلامية التي أطاحت بنظام الشاه. ذهب علي شريعتي ولم يدر أنّه ألهَمَ – بكتاباته وبفكره – الشعب الإيراني ليثور، ولم يدْرِ أنّ مؤلفاته تُتداول الآن بين الناس وتنتشر في الكرة الأرضية كلها، لتوقظ النّاس من سباتهم، وتنفض الغبار عن الدين الإسلامي ممّا لحق به من انحرافات وخرافات؛ وأنّ «أفكاره عن المثقف والدِّين والمجتمع والاستعمار وغيرها، ما زالت درسًا صالحًا لمجتمعاتنا التي هي بكلِّ تأكيد في أمسِّ الحاجة إلى الأسس الفكرية والأدوات المعرفية التي تُنقذها من أوضاعها الراهنة»، حسب رأي الكاتب عصام حمزة.
آمن علي شريعتي برسالته إذن، ولم يتردد لحظة واحدة في التصريح بما يؤمن به، وظلّ – مثل ذلك الديك الذي تحدّث عنه – يبشِّر النّاس بالنور، وبالفجر الوليد، وبالحريّة، والمساواة، رغم أنه كان يعرف سلفًا أن مصير ديك كهذا هو الذبح. وظلّ يردّد دائمًا: «عندما تقرِّر الوقوف ضد الظلم، توقّع أنك سوف تُشتم.. ثم تتخون.. ثم تتكفر.. لكن إيّاك أن تسكت عن الظلم، من أجل أن يُقال عنك إنك رجلُ سلام».
لقد رحل علي شريعتي، ولكن ديكه ما زال يؤذِّن حتى الآن ويوقظ النيام.