الثقافي
النص المُعنَّف حقل ألغام
محمد الحميدي
أن تقرأ وأن تحب ما تقرأ هي الجملة الافتتاحية التي تواجهك وأنت تدخل إلى حقل الألغام، فوراء كل كلمة هنالك مأزق، وخلف كل حرف، ثمة انفجار، وبمرورك عبر الأسلاك الشائكة سوف تجرح عباراتك وجُملك وتشابيهك وتصويراتك، فاللغة تحولت بين يديك إلى قنبلة.
هذا ما يقدمه كتاب النص المعنف للدكتور عبد الدائم السلامي من تونس الشقيقة، حيث لا يكتفي بالغوص في اللغة، ويجعلها طرية وأخاذة، ويستلهم من كتابات القدماء الكبار سبيلا لمقاربتها والتلذذ بها، بل يضيف إليها هجوما حادا تارة متواريا ومغلفا بنوع من الرقة وأخرى مكشوفا وكأنها في مبارزة رومانية “حتى الموت” مع النقاد والكتبة.
أما من هم المهاجمون والذين انصبت فوقهم حمم الكتاب فأكثر من طرف؛ بداية من النقاد “قليلي الثقافة”، ومرورا بالكتاب “المنبهرين بأنفسهم”، ووصولا إلى لجان الجوائز الذين يقررون صعود كاتب وسقوط آخر، ويساهمون في تكوين المشهد الثقافي، حيث لم يترك أحدا إلا وأدماه وأسال دمه.
الوحيد الذي يراه صالحا لاستنبات المنهجية الجديدة وإعادة تأسيس الذائقة هو القارئ، فالقارئ هو الهدف من كتاب النص المعنف، وقد سعى إلى تحصينه وجعله على قمة أولويته أثناء بنائه لخطابه اللغوي ورمزياته الحادة والجارحة، مستفيدا من مناهج ما بعد البنيوية، أو ما بعد الحداثة.
فامتدادا من القارئ العليم، والقارئ الخبير، والقارئ المراقب، والقارئ المجرب، والقارئ النصي، والقارئ الافتراضي، والقارئ الفعلي، والقارئ المعاصر، والقارئ المثالي، وجميع القراء الذين أنتجتهم نظريات “القراءة والتلقي” نجد الكتاب أعاد صياغة المفاهيم واختراع المصطلحات، محاولا تكييف المشهد الثقافي بما يتوافق مع منهاجيته المستحدثة فأوجد “القارئ المتمرس”.
ليس غريبا أن ينال الكتاب نصرة القارئ العادي والمتلقي البسيط؛ لكونه أعاد الاعتبار إليه وطرحه كمحور أساس من محاور القراءة الناقدة، فهو الوحيد المخول بإطلاق الحكم النهائي على النص الأدبي الإبداعي، أما من يطلقون على أنفسهم مصطلح ناقد أكاديمي فليسوا أكثر من مُدربِين على القراءة.
أيضا لن يكون غريبا أن يحصل الكتاب على هجوم المجتمع الثقافي وصناعه وهم يقرؤون النقد اللاذع لهم، فلا الكُتاب، ولا النقاد، ولا مانحو الجوائز؛ قادرين على التفوق على أنفسهم وإنتاج مشهد ثقافي، أو كتابة تضارع أحلام المتلقين وتسعى إلى إنباتها في طروحاتهم الفكرية واللغوية.
رحلة ممتعة ومليئة بالخطر في آن، يمارسها قارئ الكتاب وهو يتجنب المقذوفات والقنابل المزروعة والانفجارات المتوالية التي تعصف بقدميه ورأسه وتحاول إعادته من بعيد ناحية النص المبدع؛ ليكون هذا القارئ هو المُخرِج الأوحد لجميع المشاهد الثقافية الراهنة.
10 أغسطس 2020م