السياحي
الحديقة و الورد
يكتبها: سعيد بن خلفان النعماني
أُحِبُّكِ جداً وأعشقُ فيكِ الغيابَ والسكون، ولن أنفك مستجديا منك الانعتاق من صمتك المطبق والوجوم الذي لازمك كل الدهر، بل ويَسْتَهْوِينيِ عِنْدَ السَّفَرِ ووقت كل رحيل أن أكتب إليكِ وأقرأ عنكِ وأتأمل في قصتكِ التي قُدِّر لها ألا تنتهي في زمني القصير، الذي مضىَ منه ما مضىَ وبقيَ منه ما بقي .
ثمةَ قصصٌ كثيرةٌ في ِحياتِنَا تَضَلُّ إلىَ الأبدِ مجردَ قِصَصٍ وحِكَايَاتٍ يتناقلُهَا الناَّسُ فيِ الحَاراتِ والأزقةِ القديمةِ، ولكنها تختلفُ قَلباً وَقالباً عن قصتِناَ القديمةِ التي ستبقىَ طَيَّ النسيانِ وفيِ أقاصِي الأدْرَاجِ المبَعثرَةِ، تَلتحِفُ كُلَّ يومٍ بأكْوامِ الأوراَقِ المهترئةِ .
إنَّ الذي أثِقُ إليهِ، وأعزي به نفسيَ الصابرةَ بأنكِ حكايةٌ مختلفةٌ عن الآخَرين.. آلاف البشر الذينَ امتلأتْ بهِم الكتبُ والمخطوطاتُ البائسةُ، لأنكِ الروحُ الطَّيبةُ التي أحبها وسأهلك فيها عشقا وهياما،، ليس لأن روحك قد ملأتني مُنْذُ زَمَن ٍبَعيدٍ بإحسَاسٍ لم أدركه بعد ولكن للقوة الغريبة التي تشعرني في كل لحظة بأنك الكائن الوحيد الذي يعرفني وخُلق من أجلي ليكون ملكا خالصا لي يتعهدني في سكوني وحركتي، ربما لن تصدقي بعضَ كلامي او كله واذكر بأنك صَرَّحتِ أكثر من مرة عن هذا الشعور، ولكن الحقيقة هي التي أقولها لك دائما، فأرجوك الثقة والتصديق حتى لا تغادرني الروحُ التي ظلت تؤانسني إلى الأبد .
في هذه المرة أكتب إليكِ من شيراز إحدى مدن إيران الجميلة، هذه المدينة التي قرأتُ عنها الشيء الكثير واستهوتني.. الكلستان – حديقة الورد – التي أفرد لها سعدي الشيرازي ديوانا خاصا، ولن أبالغ إذا قلتُ بأنكِ أنت الحديقة والورد الذي تغنى به سعدي منذ سنوات بعيدة . أكتب إليكِ.. وأنتِ معي، وكم كنت أود مرافقتك جسدًا وروحا لا ينفصلان، لأن روحك التي وُلِدَت لتلتقي معي لا تفارقني دائما.
يُعبر تخت جمشيد – كما يسمى بالفارسية- عن قضية قديمة عمرها 2500 سنة، أي ما يقارب أعمار 50 جيلا من البشر، إذا حسبتِ أن الجيل البشري الواحد لا يزيد على خمسين عاما كمتوسط حسابي بسيط، ويعني ذلك أيضا أن هذه القضية بدأت قبل أن ترد أجسادُنا إلى هذه الدنيا وتبعثُ فيها أنفاس الحياة، جاءت أجسادنا وأرواحنا إلى هذه الدنيا حديثا، ولكنها في علم الله تعالى ظلت أرواحاً مخزنة في مكان ما بانتظار دورها لدخول عالم الكائنات الحية ولتخرج منه جبرا الى عالم آخر.
ان تخت جمشيد ويقصدون به عرش أو قصر جمشيد الذي عَمَّر وحَكَم هذه البلاد، وحَوَّل الجبال الصماء الى بيوت ومساكن فارهة.. ولأنكِ لم تري هذا التخت رأي العين، فإنني أحاول الوصف السريع، فهو روعة في البناء والتصميم، والهياكل الصخرية التي بنيت ونقشت بها صورهم وأشكالهم باقية إلينا بعد 2500 سنة منذ نقشها وحفرها وسَكـِّها لتكون عملةً تاريخية للآتين من بعدهم.
وأنا أتجول وسط تلك الجبال المنقوشة استحضر شكل جسدك الطاهر النقي وروحك الغالية التي تحتويه بكل لطف وحنان ..وتطير به الى الآفاق البعيدة.. تلك هي الروح التي أحملها بين ثنايا كل جسمي منذ أن صدر الحكم عليّ بأن أكون ضمن مقتنيات هذا الكون، لقد حاولت ذلك الاستحضار مرارا وتكرارا، ولكن الحقيقة التي لا أتحملها تقف أمام وجهي باستمرار، فنظام الاستحالة وسنن الكون تقتضي الا يلتقي جسدُك البعيد بروحكِ المرافقة لروحي ولأننا جئنا نكرةً الى هذا العالم الا عند أهلنا المعدودين فإننا سنذهب نكرةً مرةً أخرى ولا يُصْنع لنا تختا ولا نقشا لصورنا، لأن العالم سوف يضج بصور ونقوش الملايين الذين يأتون بلا استدعاء ويذهبون في كل يوم بلا وداع، فحياتنا التي نعيشها بأجسادنا لا تعدو إلا خيالا وحلما جميلا أو قبيحا سويعات بسيطة.
تخت جمشيد كان تعبيرا عن أهمية الحياة وجمالها وبقائها واعتقاد أهلها بعدم الفناء والسكون الأبدي بين الصخور.. تلك الصخور التي لم تتحدث عنهم لأنها صماء لا يستهويها معرفة ما يقول الآخرون، ولأنها أيضا بكماء لا تنطق بشيء فتقف جامدة ساكنة ليعبر عنها الزائرون والباحثون عن الآثار .
في تلك البلاد التي زرتها.. هنالك تخت آخر وقصر مشيد رائع، تشم منه رائحة الفناء والهلاك من بعيد.. هذا القصر المعروف بنقش رستم غاية في الإبداع الإنساني، الذي حاول فيه نقاشو ذلك الزمن رسم صورة مختلفة بكبرياء يطاول السحاب لصورة الهلاك والموت.
قُطِّعت أركان ذلك الجبل الشامخ الى ما يشبه بوابات القلاعِ والحصون التي نعرفها، فكانت تلك البوابات المرتفعة بثباتها المتقنة بأعمدتها المستقيمة بارتفاعها، لا يضم داخلها سوى رفات أولئك الملوك والأمراء الذين عاشوا قبل ولادتنا بـ 2500 سنة كما يذكر المؤرخون..
أودعت تلك الأجساد الفانية صخوراَ صلبة لا تفنى إلا بأمر الله تعالى يوم تُدك الجبالُ دكاً، وتتحول إلى ما يشبه السحاب التي تُـطيـّرُه الرياحُ في الأجواء البعيدة.. ذلك حالهم يا عزيزتي، أظنك الآن وأنتِ تقرئين هذه الأسطر المبعثرة ترسمينَ صورةً مائية لهذا الجبل وتلك الرفات المندثرة ولكن لا ترسمي لنا نقشاً ولا تختاً ولا تبحثي لنا عن جبل صخري شامخ ليحتوي قبورنا.. فأنتِ لا تعشقي الموت وأهله مثلما يطلبه الكثيرون من قبلنا ومن بعدنا.
إن أمرنا سهل للغاية، ولكن مَنْ يمجد حياتنا بعد الرحيل؟! ومن يذكر شخوصنا وأشكالنا عندما تدس في حفر ضيقة لا تسع حتى لمقدار بسيط من ذكرياتنا.؟! .إنهم يبكون علينا طويلا ويذكرون مآثرنا لزمن قصير، نصبح بعدها نكرةً بعد معرفه وحديثا بعد صمت وخيالا بعد واقع،هكذا ستكون المعاملة ولا أظن أكثر من ذلك من شي.
هذه النقوش الصخرية والتخت الذي احتوى على أكثر من جبل، صنعه بشر مثلنا، لا نعرفهم ولم يشأ أصحابها تعريفنا بناقشي الصخور وحافري التخوت، هكذا هي الحياة، بقيت رسوم عظمائهم وأسماؤهم واندثرت أجساد الناقشين وتوقيعاتهم..عندما تذهبين جسدا وروحا الى تلك الأمكنة سوف تتذكرين هذه الأسطر وتعرفين كم كان معنى التاريخ الذي يجمعنا منذ القدم.
إن الناس في رحلتي هذه كان عددهم كثيرٌ جداً من المسافرين والسائحين أو أهلها الطيبين الذين وهبهم الله تعالى الجمالَ في كل شيء.. وتحدثي عن كل شيء كما شئتِ، وتصوري الشيءَ على أبعد الخيال.
ولكن وسط ذلك الزحام كنت أمضي بينهم ساكتا ساكنا متفحصا بعض الوجوه.. ليس لأنني أبحث عنكِ بينهم ولكن مخافة أن ترتسم صورتك الجميلة على أجساد ليست جديرةٌ بحملها.
في صميم جبال سبيدان المتجمدة.. المسطحة بالثلج والملتحفة بالبياض..كنتِ معي رفيقة – كالعادة – فالبياض يجمعنا باستمرار.. إنه اللون الأبيض الذي نعيشه ونهرب منه في كل لحظة، لون يعبر عن النهاية التي نمضي اليها في كل خفقة.. ولكنني كنت اشعر بالدفء العميق مع ان الجبال والطرق والمنحدرات مغطاة بالثلج السميك.. حتى السحاب الكثيف الذي أسدل ستاره الأبيض على الكون، كان ناصع البياض وتتساقط منه بين الفينة والأخرى قطرات مائية ثلجية.. نسميها البرد.
كنت حينها أشعر بدفء أنفاسك التي تبعث في كامل جسدي سخونة الحياة وحرارة الأنتظار.