لم تكن يريفان قد تحررت من حرارتها العالية حينما عدنا إليها من مدينتي “جيرموك” و “ديليجان” في منتصف رحلتنا إلى أرمينيا، ذلك العمق الذي كانت درجات الحرارة به لطيفة وباردة نسبيًا مقارنة بالعاصمة التي تركناها تغلي من شدة الحرارة. مفاجأة غير متوقعة تلك التي صدمتنا بها العاصمة الأرمينية بعد تجربة باردة جدًا في الخريف المنصرم؛ وقتها كنت لا أستطيع الخروج من غرفتي إلا بعدة ارتداء طبقات من الملابس في محاولة لمنع تسرب البرودة إلي.
لم يكن الرفاق قد استقروا في مقر إقامتنا الجديد في يريفان قبل أن يقرروا تبريد أجسادهم في حوض السباحة الذي يحتل نصف مساحة الفناء. لعل مرشدنا كان يغبطنا على ذلك الحوض الذي لا يتوفر عادة في المنازل الأرمينية؛ بل أن شكل المنزل يعتبر استثناءً في ذلك الحي على أطراف العاصمة الصغيرة؛ وكأنه أحد قصور ستالين الصيفية التي كان يسكنها إبان إشتراكية أرمينيا السوفييتية، يتوسط مبانٍ وغرف بالكاد يطلق عليها منازل بسبب تهالكها الذي يشي بفقر أصحابها.
عند المساء خرجنا في مجموعات نتجول في أرجاء يريفان قاصدين ساحة الجمهورية التي كانت مسرحًا للعروض الصيفية الشيقة. كنا مجموعة لا تزيد على خمسة أفراد يتقدمنا الأمير في تلك الجولة، كنا نعتقد أن المساء سيتكفل بتلطيف أجواء يريفان؛ قبل أن نفاجأ باستمرار الحرارة وكأنها تنقل لنا حرارة الصراع الأرميني في جبهة “ناغورني قره باغ” مع جارتها أذربيجان.
كانت ساحة الجمهورية تشهد احتفالات مبهجة اجتمع فيها السياح لقضاء أوقات المساء التي اقتنعت أخيرًا بتخفيض درجات حرارتها. ولهذه الساحة خصوصية تجعلها تحفة معمارية تعكس جانبًا جميلًا من الحضارة الأرمينية؛ وكأن ألكسندر تمانيان أراد أن يصمم ساحة خالدة في أذهان السياح قبل مئة عام. وبمناسبة ذكر عائلة مصمم هذا الميدان (أعني تمانيان) فإن ما يجعل الأرمن مميزون في أسمائهم هو وجود حرفي الألف والنون نهاية اسم العائلة ويظل يحمل أرمينيته معه حتى في المهجر ليورثها لأبنائه بعد ذلك. كما أن الأرمينيون يمكن تمييزهم بسهولة عبر شكل أنوفهم التي تتخذ شكلًا مميزًا حتى وإن لم يكن ذلك الشكل مرغوبًا من قبلهم بسبب انعقاف أرنبة أنوفهم.
قضينا وقتًا ممتعًا في يريفان قبل أن تقرر مجموعتنا العودة إلى قصر ستالين والذي لم يكن يبعد سوى أقل من كيلومترين. لم تكن العودة إلى مكان إقامتنا بتلك السهولة التي استطعنا تنفيذها عند الذهاب؛ فقد كنا نتتبع جهاز الملاحة دون أدنى شك في أننا سنصل عتبة باب المنزل بلا عناء. في الوقت الذي تشير إليه الخريطة أننا على بعد خطوات من المنزل نقف حائرين أمام ذلك الشارع الذي تقطعه المركبات جيئة وذهابًا دون قدرة منا على تحديد معالم المنزل.
كان الرفاق في حيرة كبيرة خصوصا بعدما حاولنا تجربة أكثر من طريقة للوصول إلى المنزل الذي كان بعيدًا رغم قربه منا. في كل محاولة نصل إلى نهايتين: الأولى هي نفس النقطة التي وصلناها أول الأمر، والثانية هي طريق “المسجد الأزرق” الذي كان يشير إلى اتجاه معاكس لوجهتنا. قررنا خوض مغامرة بعد مضي أكثر من نصف ساعة وسط ذهول شديد وكأن السبب الوحيد الذي أدى بنا إلى هذا التيه هو حالة الإرهاق التي كنا نشعر بها بسبب رحلتنا الطويلة من ديليجان.
قررنا دخول زقاق ضيق كنا نعتقده مدخلًا لتلك المنازل التي تحيط بالمنزل الذي نسكن به. دلفنا داخل الزقاق المظلم والهادئ إلا من لهاثنا وهمساتنا، أفضى بنا الزقاق إلى طريق مسدود وجدنا أنفسنا أمام عدة أبواب، لم يساورنا الشك لحظة في أننا أخطأنا الطريق ويجب علينا العودة من حيث جئنا وسط صمت مطبق من قبل الرفاق قبل أن يطلق أحدهم ضحكة مدوية هزت أرجاء المكان لم يستطع كتمانها جرّت معها ضحكات باقي الأصدقاء. كان الموقف مثيرًا للضحك حقًا؛ حيث أننا لم نكن نتوقع اقترافنا لجنحة التعدي على مساكن مأهولةبأصحابها من قِبَل سياح قادمين من عمان. كان علينا التصرف بسرعة قبل أن يكتشف أهل تلك البيوت بأن غرباءً قد تسللوا خفية إلى مخادعهم دون إذن وفي ساعة متأخرة من الليل.
عدنا نحث الخطى قبل أن نكتشف زقاقًا آخر كان يجاور منزلنا مباشرة. لم نستطع إيقاف موجة الضحك التي بدت هيستيرية في تلك اللحظة وقد أُغلق علينا باب المنزل من تلك المفاجأة غير المتوقعة. في صباح اليوم التالي عرفنا مسار العودة الصحيح حتى لا نكرر ما أقدمنا عليه ذلك المساء وقد لا تتكرر معه الأحداث التي فطن لها جيراننا الليلة الفائتة بلا شك.