الفني
“درب الزلق” .. سحر الجاذية وغموض الأسطورة
كتب: حسن المطروشي
بعد مرور ثلاثة وأربعين عاما على إنتاجه (1977م)، يطل علينا مجددا مسلسل (درب الزلق) الأسطوري، من تأليف عبدالأمير التركي، وإخراج حمد فريد، عبر أكثر من محطة فضائية في شهر رمضان المبارك، ليؤكد حضوره وتفوقه واحتلاله صدارة الأعمال الدرامية لدى المشاهد الخليجي والعربي، رغم الكم الهائل من الأعمال التي تبثها الفضائيات من المسلسلات الخليجية والعربية. ورغم مرور هذه السنوات، إلا أن (درب الزلق) ما زال يمثل العمل الأكثر بروزا وهيمنة وجاذبية وسحرا وخلودا!
لقد تساءل الكثير، وما يزال التساؤل قائما، وسيبقى للأبد، عن سر هذا السحر والجاذبية الغامضة لهذا المسلسل، أهي البساطة والتلقائية، أم هو الإخراج المتقن، أم هي الشخصيات اللطيفة المحببة “حسينوه” “سعد” “قحطة” “بو صالح” “أم سعد” “المحامي” وغيرها، أم هي إمكانية وعبقرية الجيل الذهبي في الدراما الخليجية في صناعة المواقف وتجسيد الأحداث، أم هي مسحة الكوميديا الواقعية التي تلامس الذائقة الخليجية والعربية، أم هي حبكة المسلسل وأحداثه المشوقة، أم أجواء المسلسل والحقبة الزمنية التي تعيد للذاكرة لحظة مختلفة من زمن الخليج العربي مسحتها التحولات الهائلة بعد اكتشاف النفط وتدفق الثراء مغيبا معالم تلك الحقبة الجميلة؟
ربما كل ذلك وغيره الكثير من التأويلات التي يطرحها البعض لفك الشفرة السحرية الغامضة التي يتميز بها هذا المسلسل دون غيره، ما يمنحه هذه القدرة على البقاء والخلود والقبول لدى أكثر من جيل، حتى بات جزءا من الوعي والضمير الاجتماعي والثقافي في الخليج.
إننا أحببنا هذا المسلسل، بكل ما فيه، ببساطته وفطريته وأجوائه القديمة في حياة “الفريج”، التي يجسدها المسلسل بشكل جميل، ويرصد من خلالها اللحظة الفارقة التي نقلت المجتمع الكويتي على وجه الخصوص، والخليجي على وجه العموم، من مجتمع بسيط أقرب إلى الفقر، يعيش في بيوت متواضعة، تصبح بين عشية وضحاها ذات قيمة عالية، بفعل “التثمين” الذي تقوم به الحكومة، ومنح السكان المبالغ الطائلة مقابل هذه البيوت المتهالكة التي ستتحول مواقعها إلى مشاريع وبنيات عملاقة، وهي نقطة التحول باتجاه حياة خليجية جديدة، في ظل الثروة النفطية، بعد حياة الغوص والبداوة.
ينفتح المسلسل على صراع داخلي عميق تحدثه هذه الثروة ممثلا في الصراع بين الشقيقين “حسينوه” وسعد”، يدخلان على إثره في مغامرات وصراعات لا تنتهي إلا بزوال هذه الثروة، ليعود “حسينوه” الطموح بالعمل موظفا بسيطا “فَرَّاشا” في إحدى الشركات، بعد أن حلم بشراء الإهرامات ونقلها من مصر إلى الكويت، في أكبر مشروع سياحي أقنعه به المحتال فؤاد بن سعيد باشا، الذي آل بعد ذلك للعمل مع حسينوه “خبيرا” في مصنع الكبريت الذي اضطروا لإحراقه مع سبق الإصرار والترصد، بسبب تراكم الديون والإخفاقات. وهناك أحداث كثيرة جدا يقدمها المسلسل موضحا طريق الانزلاق الخاطيء وما يؤدي إليه من نتائج ونهايات وخيمة.
ومما لا شك فيه أن لشخصيات هذا العمل جاذبية خاصة تمكنت في رسم المشاهد بصورة عفوية، وتقدم الكثير من الاسكتشات التلقائية المتقنة التي لم تكن مكتوبة في السيناريو، حتى أصبحت هذه الشخصيات شديدة الألفة والقرب منا، نحبها ونتقمصها ونتلبس بها وتعيش معنا ونصطحبها ونستحضرها في مواقف البسمة والضحك.
ومما لا شك فيه أن الاختيار السليم للفنانين الذي قدموا هذه الشخصيات كان له دور كبير في الأداء المتقن والتجسيد الحقيقي، بدءا من شخصية “حسين بن عاقول” التي أداها الفنان المرحوم عبدالحسين عبدالرضا، وشخصية (سعد بن عاقول) التي أداها الفنان سعد الفرج، وشخصية (أم سعد) أرملة بن عاقول، التي أداها الفنان المرحوم عبدالعزيز النمش، وشخصية بائع “الفلج” الثلج (بو صالح) التي أداها المرحوم خالد النفيسي، وشخصية (قحطة) التي أداها الفنان المرحوم علي المفيدي، وشخصية (صالح) ولد أبو صالح، التي أداها الفنان سمير القلاف، وشخصية (غلام) الهندي التي أداها الفنان طارق منصور، وشخصية (المحامي حبيب بن ديرة) التي أداها الفنان علي القطان، وشخصية (بو فخري) رئيس لجنة التثمين، التي أدها الفنان الراحل خليل إسماعيل، وشخصية (بو هادي) موظف لجنة التثمين، التي قام بأدائها الفنان الراحل ماجد سلطان، وغيرها من الشخصيات التي تكامل أداؤها في نسيج إبداعي يسند بعضه بعضا ليقدم مواقف درامية كوميدية لا تمل مهما طال عليها الزمن.
إننا نرى في هذا المسلسل ذواتنا على طبيعنها وفطرتها وبساطتها، ونرى فيه جزءا من ذاكرتنا وحياتنا التي كان يعشها آباؤنا، في تلك “الفرجان” المتحابة والمترابطة، بطيبتها وبساطتها ونقائها ووداعتها، مدفوعين بحنين عميق لتلك الأزمنة التي طوتها عجلة التطور ومدنية النفط. نرى فيه البسمة الصافية النقية، تعيد لنا ترميم الشروخ والندوب التي تملأ الأرواح جراء نمط الحياة الذي فرضتها علينا هذه التحولات المادية الجارفة.
ويظل (درب الزلق) هو الأخف ظلا والأعمق ملامسة لشعورنا، والأقرب إلى وجداننا، بأجوائه وحكاياه وضحكاته وشخصياته الفنية الخالدة، سواء تلك التي رحلت عن عالمنا مثل عبدالحسين عبدالرضا وعلي المفيدي وعبدالعزيز النمش وخالد النفيسي والمطرب صالح الحربي الذي غنى في عرس قحطة ونبوية، وخليل إسماعيل، وماجد سلطان، (رحمهم الله جميها)، وتلك التي ما زالت تقدم فنها وتواصل مشوار الإبداع في مواجهة الفناء والعدم.