السياحي
راينبيك حيث هامبورج تهرب مـــــــــن توحش الإسمنت وافتراس المدن
نخرج من توحش الإسمنت في البندر إلى وداعة بلداتنا المتوسدة السفوح لنستمتع بموسيقى حفيف السعف وشموخ امرأة تحمل «وقر الزور» فوق رأسها لتتراك أطراف «الوقر» تكنس الدرب كفستان زفاف نبيلة أوروبية. وننصت لـ «ظاظوة تكاكي» على «فرع غصنها المياد» كما يقول المعري، ونتتبع خطوات «الزنوبة» على الدروب و «شحيج» جحش يجرب حظه في النهيق. ولم نكن وحدنا الذي يفر من ضيق المدن فها هي هامبورج تهرب هي الأخرى من صيحات السكارى ورائحة مخادع مشردي الشوارع وضجيج القطارات والسيارات والخطوات المجنونة التي ترصف الشوارع إلى الريف الأخضر لتلاحق يعاسيب الماء وشقاوات البط وأغصان الشجر وهي تتدلى في البحيرات والأنهار لتستحم.
استنطق بحيرتها: حمود بن سالم السيابي
وكما أن ريفنا الأخضر هو مهربنا الأسبوعي فإن راينبيك إحد مراتع الهروب لهامبورج لتلقي تعبها على أرائك بحيرة نهر بيل ثالث أنهار هامبورج وأكثرها سحرا وهو يتخلل ضواحيها من تحدره من هاهنهايد في شلزويج مرورا بتريتوا فراينبيك فبريجادوف إلى أن يرفد نهر إلبا عند بلدة بيلوردر. ورغم أن هامبورج نفسها مدينة غنية بالبحيرات وروافد الأنهار والحدائق والمتنزهات مثل حدائق شتادبارك ومنتزه بلانت اون بلومن ومروج أوسلدورف والإطلالات النهرية والأبراج التي تتيح بانوراما على لؤلؤة الشمال الألماني، إلا أن ابن المدينة المليونية ورغم توفر كل ذلك له ما يزال يضيق بخناق المباني وتلصص العيون وتكرار الوجوه التي يصافحها ووميض لافتات المحلات التجارية التي تبعث فيه الرتابة والضجر والسأم فيشغل خرائط البحث عن الريف البعيد من كل شيء فتكون راينبيك وهاربرج وألتسلاند وبوبنباتل الخيارات الأقرب للتجديد والترويح.
وبعد ارتطاماتي بمفاجآت الأطباء الذين يرفعون معنويات المريض مرة وينزلون بها للحضيض مرات جاءت فكرة الهروب كالهمبورجيين لنلبي نداءات بلابل راينبيك وخرير نهر بيل وشقاوات بطاته مع الأطفال الذين يتصايحون وهم يقذفون قضمات يابسة من بقايا توست إفطار الصباح باتجاه المناقير الجائعة التي تغزل البحيرة محدثة كل هذه الدوائر في الماء عند سد راينبك قبل أن يتسكب هادرا في ساقيته باتجاه بريجادوف.
كان القطار «أس تو» الأحمر في انتظارنا في هامبورج هابنهوف وقد امتلأت كل مقاعده وكأن هامبورج كلها تهرب باتجاه الضواحي, وكأنها كلها مصدومة من تقاريرها الطبية، وكأنها كلها مدعوة لنهر بيل لتعيش في زرقته ووداعته ساعات قبل أن تفترسها أنياب الوقت وطواحين الحياة.
فتحت شابة سورية تجلس في المقعد المجاور هاتفها وهي تتأمل المروج الخضر والبحيرات والجسور فتسافر بها الذاكرة نحو حماه وشجر مشتى الحلو ومدرجات بلودان ونبع بردى، وبجوارها يجلس شاب من إفريقيا السوداء جاء ليلون البنفسج الطافح في القطار. وفي البعيد ألمح أسرة مثقلة بحقائب وقدور طعام تستعد لتغرفها على ضفاف نهر بيل. ووحدي كنت أستعرض وجه البروفيسور بورست وتقاريره وأتمتم الأمنيات لأن يكون لله كلمته العليا في التقارير وأن يكون لي معه الرجاء الذي لا يخيب.
توالت البلدات على مسار القطار «أس تو» حيث خرجنا من المحطة الرئيسية لقطارات هامبورج لنعبر «برلينر تور»! ثم تأتي أولى البلدات على خط القطار الأحمر وهي «روثنبرجسوت» في متسع ريفي أخضر ثم يأخذنا القطار المتعجل بركابه إلى «تيفيستاك بلورد ومنها إلى ضاحية «مترر لاندوج» ثم تمر سريعا ضاحية «آليموه نتلنبيرج» حتى تقدم «بريجادوف» نفسها كمدينة وريف، فنترك القطار الذي يستريح هنا لنأخذ قطارا ينقلنا لمحطة واحدة هي بغيتنا فننزل في راينبيك لنترك «أس تو» يواصل انسيابه بين الحقول إلى «ووثهوف» وانتهاء ب «آموهي».
كانت «راينبيك شلوست» أو قلعة راينبيك أولى بشائر هذه الضاحية فهي تجاور محطة البلدة وتجبر الزائر لراينبيك لأن يدخلها من ثغر التاريخ. أمشي خطوات باتجاه البلدة الشلزويجية الهاينزية الغائرة في التاريخ والتي تتبعثر حاراتها في واحد وثلاثين كيلومترا مربعا من الغابات والأحراش والمروج والمسطحات المائية لدرجة أن سكانها البالغ عددهم سبعة وعشرين ألف نسمة لا يكاد العابر للمكان يرى أثرا لهم. أمشي خطوات من المحطة باتجاه راينبيك شلوست أقتطع تذكرة بسعر رمزي فأدخل مبنى قديما ترك القرن السادس عشر قشرته على جدرانه وأسقفه وخشبه. أصعد طوابقه الأربعة ومعي أربعمائة عام ورائحة التاريخ. أتوقف أمام جدارية ضخمة وبيانو قديم لطالما سحرت ألحانه الساهرين هنا، وقاعة كبيرة مسقوفة بألواح الخشب كأسقف الحزم وجبرين.
هنا يقيم أثرياء هامبورج والضواحي حفلات الأعراس ليتذوقوا أزمنة النبلاء.
أطل من نافذة كبيرة بمصاريع حديدية ودرفات من الخشب باتجاه البحيرة التي تغير لونها أكثر من مرة في اليوم فتبدو بيضاء عند الصباح ولحظات الغروب، وخضراء حين تفضح الشمس قعرها المغطى بالطحالب، وزرقاء حين يمر الأصيل فتعتم المياه قليلا. أجلس على مكتب خشبي جلس عليه نبلاء الأزمنة وحكام البلدة أقرأ نبذة عن راينبيك بلدة الأثرياء ومرتع الهاربين من ضجيج المدن الإسمنتية وملاذ العشاق ومرتع الشعراء والفنانين والرسامين والمصورين وأصدقاء الطبيعة. أعبر الطوابق الأربعة فتتكرر الصالات الفسيحة المفروشة بالخشب والأسقف المجدولة كأسقف جبرين واللوحات الجدارية. أقف عند ساعة كبيرة لأستمع لرناتها القادمة من الزمن البعيد فأتحسس خشبها لعل ملاكها دسوا في الصندوق خارطة الكنز.
أغادر راينبك شلوست باتجاه البحيرة أتبع خطوات عاشقين أنهيا التطواف في القلعة بسرعة ليلحقا بالبط والفراشات ويعاسيب الماء. احتواهما الشجر وهما يمشيان فتساءلت :
أتَمْشِيانِ أنتما؟
أَمْ تُرَى ذاكَ الذي يمشي الشَّجَرْ ؟
أتَسْكِران ؟
أم هو الدرب احْتَسَى الشَّوْقَ كؤوساً فَسَكَرْ؟
أمْ تُرَى الظِّلَّ وقدْ أَضْجَرَهُ المَشْيُ وحيداً فانْكَسَرْ ؟
أمْ هي الخطوة تغْتَابُ المسافاتِ
كما العمر وإنْ طَالَ قَصُرْ ؟.
وضعت بلدية المدينة مرسى خشبيا يمتد في البحيرة وفي طرفه أريكة طويلة للتأمل وقد جلس عليها العاشقان ليوثقا أجمل لحظات. انتحيت بوحدتي وأحزاني وتأملاتي أناجي البحيرة عند نقطة فيضان السد في مجراه الممتد إلى «بريجادوف». ووسط هدير تسكب الماء سرحت بعيدا نحو نخل شاذون وتحديدا عند السد التحويلي لمياه ثوارة نخل حيث تم وضع ما يسميه الشاذونيون بالخرزة لمحاصصة الماء بين «فلج كبه» والوادي الذي يغذي العيون.
كانت بحيرة السد بامتداد البصر وحول ضفافها الصفصاف والسرو والصنوبر وقصور الأثرياء. مشيت باتجاه القصور حيث تكشف السيارات الفارهة أمامها مستويات السكان وتتحدث جنائن القصور عن ثراء وإحساس الناس بالجمال. واصلت المشي بين صفوف القصور وكل قصر أقترب منه يقودني للقصر الأكبر والأجمل منه. يشير هذا الطريق إلى الغابات التي يتخفف فيها الناس من ضيق الجدران، وهناك الشجر الذي يطاول أبراج الكنائس الخمس التي تتوزع في البلدة.
وهذا الدرب يأخذني نحو «الداون تاون» حيث المحلات التي تغطي احتياجات البلدة من فنادق ومولات صغيرة ومصارف وبقالات وحانات احتساء الآثام. أعود إلى البحيرة لأجلس على أريكة خشبية وأمامي عائلة جاءت إلى المكان بأطفالها وبأكياس «التوست» لبدء لعبة تسابق المناقير مع الخبز قبل أن يغطس في القاع فتدسه الطحالب كوجبات للأسماك. ما يزال العاشقان على أريكتهما يحلمان بينما أعود تحت قباب الشجر دون تساؤلات:
أتمشيان أم ترى ذاك الذي يمشي الشجر؟.
وكان قطار «أس تو» الأحمر يفتح أبوابه ليندفع العابرون من مشوار الهروب فيتوزعون على المقاعد. بحثت عن الوجوه التي كانت معي في رحلات الإياب إلا أن الضواحي ابتلعت السحنات العربية وبقيت مجددا وحدي أتحسب مواعيد جديدة مع الدكتور بورست وبقية الأطباء. وكانت العودة عكس المجيء فالمشاهد شاحبة والليل بدأ ينثر مقدماته، وكنت مثل المشاهد المتغيرة خلف نوافذ القطار شاحباً مثلها وأنثر مقدمات الغروب. توقف «أس تو» في محطة الهابنهوف فاندفعت خارجه بعد أن دققت على مواضع أقدامي عند النزول خشية تكرار مسلك رودولف زوج سالمة الذي سحقه القطار وهو يسرع شوقا لعينيها. كانت الهابنهوف مزحومة هذا المساء والأتراك أحفاد السلاطين ما يزالون في ركنهم يبيعون الشاورما بعد أن كانوا يهزون أوروبا وآسيا وإفريقيا معا.
وفي الطريق إلى الفندق لم تصل للأذن أصوات زنوبة ترصف الدروب بل إيقاع كعوب تصفع الحجارة، ولا نساء يحملن «وقر زور» فوق الرؤوس بل تسريحات بألوان الطيف، وقبعات إنجليزية ومكسيكية. ولم أستمع لشحيج جحوش كما في ريفنا البكر، بل رأيت كلابا بحجم الجدي تنبح كلما مرت بجانبها كلاب بحجم القطط الهزيلة. وصلت الفندق ليبدأ مجددا دولاب الحياة في الدوران ومعه ارتياب الأطباء والبحث في خرائط الترحال لمهرب جديد من توحش كل الأشياء.