الثقافي
في السجال حول الشعر وأحواله .. أين تكمن الأزمة؟
استطلاع: التكوين
تتردد في الأوساط الثقافية والإعلامية مقولات انهزامية مفادها أن الشعر يمر بأزمة وجودية، وأنه بدأ يتراجع أمام بقية الفنون الإبداعية وفي مقدمتها الرواية. ورغم أن مثل هذه المقولات قد طرحت منذ فترة في ميدان الثقافة، فإن صداها ما زال يتردد بكثرة في المجالس والكتابات والأحاديث الثقافية، وهي بلا شك مؤشر خطير يتوجب الالتفات له ومناقشته وطرحه وتقصي أبعاده. فليس من السهل أن تتخلى الذائقة العربية عن الشعر الذي هو مرتكز ثقافتها وذاكرتها وسجل أحداثها وديوان مشاعرها وتاريخها على مر العصور.
في هذا الاستطلاع نسلط الضوء على جانب من هذه القضية ونتساءل: هل الأزمة تتمثل في الشعر ذاته الذي بات غير قادر على التطور وملاحقة التحولات الحضارية التي تمر بها المجتمعات؟ أم أن الأزمة تكمن في الشعراء الذين لم يتمكنوا من الارتقاء بهذا الفن ليواصل دوره في ريادة الفنون كسابق عهده؟ أم أنها أزمة عامة تتعلق بالوعي والذائقة الفنية لدى المتلقي؟ أم أن هناك أسبابا أخرى كالإعلام والواقع الاجتماعي وغيره .. هنا بعض الآراء التي تستجلي هذه المسألة كل من وجهة نظره وتجربته.
هزيمة النصّ
في البدء يحدثنا الشاعر الأردني زهير أبو شايب قائلا: هذه ليست مجرّد أزمة شعر. إنّها أزمة وجوديّة شاملة تعصف بالوجود العربيّ الراهن على كلّ الصعُد والمستويات؛ ولذا فإنّ قراءة الأزمة تحتاج منّا إلى النظر في المشهد العامّ للخراب، الّذي تبدو (أزمة الشعر) مجرّد تفصيل صغير من تفاصيله الكثيرة المعقّدة.
من المؤكّد أنّ (الشاعر) مسؤول أوّل عن خراب القصيدة. لكنّ الفضاء الثقافيّ، الّذي ترعرع فيه الشعر الفاسد، هو الّذي ينبغي لنا أن نبحث فيه عن إحداثيّات المشكلة وجذورها العميقة. غيبوبة التلقّي العامّ والتلقّي النقديّ أيضًا إحداثيّان رئيسان من إحداثيّات المشكلة، إذ لو كان التلقّي عاليا وحيويًّا لما كان للكتابة الفاسدة أن تنتشر وتتغلغل في الوعي والذائقة وتتحوّل إلى سلطةٍ تصعب مواجهتها.
ويضيف زهير أبو شايب موضحا: نحن بحاجة إلى (ربيع عربيّ) لإسقاط الفساد الّذي في (النصّ) قبل الفساد الّذي في (السلطة)، لأنّ فساد النصّ مؤسّس لفساد السلطة، وفساد النصّ لا يكمن في العيوب اللغويّة والركاكة والفقر الإبداعيّ وغير ذلك من المواصفات الّتي يهرف بها اللانقد العربيّ الراهن، بل يكمن في هزيمة النصّ أمام السلطة، حيث تتحوّل القصيدة من مادّة حلميّة إلى نفايةٍ من نفايات الوعي، ويتحوّل الشاعر من خالقٍ إلى عبدٍ للسلطة.
ويختتم زهير أبو شايب حديثه مؤكدا أننا نحتاج إلى نقد شجاع يردع المتطفّلين على الشعر، ويبصّر المتلقّي الأعمى بما يصلح لاستهلاكه من طوفان اللاشعر الفاسد الّذي يملأ الكتب. لكنّنا نحتاج إلى نقد لا يكتفي بالنظر في فساد القصيدة بشجاعة، بل ينظر بشجاعة أكبر في فساد الواقع الّذي ينتج فساد الثقافة وينتجه فساد السلطة.
منه الجيد ومنه الرديء
الشاعر الإماراتي إبراهيم محمد إبراهيم من جانبه يقول: أوافق من حيث المبدأ على حقيقة انحسار دور الشعر مقابل الرواية خاصة خلال العقدين الماضيين، ولا يعود ذلك كما أرى إلى انحراف الشعر عن مساره في المجمل من حيث الجودة والعمق والإدهاش. فمنذ أن عُرف الشعر كان منه الجيد ومنه الرديء، شأنه في ذلك شأن جميع أصناف وأنماط الكتابة الأدبية الأخرى ومنها الرواية. فالشعر الجيد، العميق، المدهش، القابل للاستمرار والصمود عبر السنين بسبب قدرته الذاتية بما يحمله من قيم الحداثة وقابليتة لتعدد القراءات موجود وبكثرة حتى في أيامنا هذه، مما يسقط فرضية تردي وانحدار الشعر كلون أدبي رائد بين العرب.
كما لا يعود السبب أيضا إلى تألق الرواية في ذاتها مقارنة بالشعر أو أنها تطورت في الوطن العربي بشكل ملفت من حيث الكيف والجودة. أرى أن السبب يكمن في ضحالة الذوق الفني ومستوى الوعي العام لدى الأجيال المتأخرة بأهمية الشعر وكيفية التعامل معه ومحاولة الدخول إلى عالم القصيدة عبر مفاتيح غيرها من الفنون الكتابية.
ويختم إبراهيم محمد إبراهيم مداخلته قائلا: باختصار إن من أعقد ما يمكن تعليمه لأجيال تكاد تغرق في عالم الماديات [لغة المشاعر] أو كيف يتعاملون مع الشعر؟
عودة للصدارة
الشاعر السعودي محمد ابراهيم يعقوب له رؤية مختلفة يوضحها قائلا: فكرة الطرح أن الشعر يعيش أزمة كان مستساغا، ولا أقول منطقيا، كان مطروحا قبل عشر إلى خمس عشرة سنة – أتحدث عن المملكة العربية السعودية على الأقل – وذلك في بدايات جديدة عارمة للإنتاج الروائي وعلى مستوى أسماء جديدة أخذت تأخذ لها مكانا قراءة وإنتاجا في المشهد الثقافي، أضف إلى ذلك توجه أسماء شعرية مهمة وحتى بعض النقاد ومن يسمون أنفسهم مفكرين – إلى كتابة الرواية .. هذا ما جعل الرواية تتصدر المشهد الثقافي مما حدا ببعض المتابعين إلى تبنّي مقولة: “هذا زمن الرواية “، ورغم كل هذا ظل الشعر مهيبا.
ويستدرك محمد ابراهيم يعقوب مبينا: أجل، لقد كانت العاصفة هائلة واضطر الشعر إلى الانحناء قليلا حتى تمرّ هذه العاصفة، لكنه لم يتوقف يوما، فالأسماء الشعرية الحقيقية في كل جغرافيا الوطن العربي ظلّت ترسم نموذجا حديثا للشعر واستطاعت أن تجمع مريدين حولها يصطلون بنار تجاربهم ويتشكلون شيئا فشيئا، هذا إلى جانب أن المهرجانات الشعرية وبرامج المسابقات الشعرية والجوائز احتفظت بزخمها واحتضنت وانجبت أسماء أخذت مكانها في المتن الشعري العربي لاحقا.
أما الآن فلا مبررات لطرح أزمة الشعر إطلاقا بوجود وسائل التواصل الاجتماعي، فنسبة ما يطرح شعريا بالنسبة للأدب على وسائل التواصل يتجاوز نسبة% مما أتابع أنا على الأقل .. الأمسيات الشعرية عاد وهجها وحضورها والتفاعل معها .. ظهور أسماء شعرية شابة لامعة عززت مكانة الشعر عند فئة لم تكن في مدار المريدين للشعر، دور النشر أخذت تطبع الشعر وتراهن على الشعراء الجدد.
الشعر المترجم والإعلام
الشاعرة سميرة الخروصي تؤكد في مستهل حديثها أن الشعر لا يمكن أن يكون متهما. فالشعر فن، ومتى ما وجد هذا الفن مواهب إبداعية كبيرة فإنه حتما سيحلق ويبتكر دهشته الخاصة. ولكن قد نعتبر الغموض الكثيف الذي دخلت فيه القصيدة الحديثة سببا من أسباب ابتعاده عن ذائقة العامة، ورغم ذلك لا ننكر أن هناك الكثير من الشعر ولكن قلة هم الشعراء الذين يقدمون إبداعا نوعيا، وهؤلاء حتما سيجدون مساحتهم في المشهد الشعري.
وتتفق سميرة الخروصي أن هناك نوعا من التدني في الوعي العام وتراجع في الذائقة الإبداعية، وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية بالارتقاء بهذه الذائقة التي انحدرت إلى مستويات خطيرة، سواء في تلقي الموسيقى الجادة أو الأغنية أو القصيدة أو اللوحة الفنية أو أي عمل إبداعي نوعي.
ملاحظة: الاستطلاع كاملا منشور في عدد شهر مارس 2019م.