السياحي
هامبورج … الوصول الممل لولا السفر
كانت دوسلدورف أول مدينة أقترب فيها من طيف الأميرة سالمة وألاحق عطرها وكحلها ورنين خلاخيلها يوم حملتني الأقدار أواخر تسعينيات القرن الماضي للسفر إلى الوسط الألماني بصحبة زميلين من جريدة عمان لحضور معرض «دروبا» للمطابع. ولم تكن تجهيزات المطابع من أحبار وقطع غيار وورق من اختصاصي ولا التفاوض على شرائها من مهام عملي بل كنت مجرد شاهد على مفاوضات الانتقال من مطبعة صغيرة دارت معها حروفي يوما إلى مطبعة كبيرة لم يطل بحروفي العهد لتدور بها.
حمود بن سالم السيابي
وبينما انشغل زميلا الرحلة في تفحص أحدث تجهيزات المطابع انشغلت بتأمل الوجه الحزين للأميرة سالمة في عتمة نهر الراين وبتتبع الأقراط والدماليج وهي تتلألأ على صفحة نهر الدوسيل. ولم يدر بخلدي أن أقترب أكثر من هذا الطيف السابح في الراين والدوسيل وأتبين بوضوح وجه الأميرة الذي شاغلني في دوسلدورف فإذا بالأقدار تلقيني بعد عشرين عاما على سرير المستشفى في هامبورج حيث ترقد سالمة رقدتها الأخيرة فأعيشها وأحاورها وأشاكسها وأتتبع القرنفل الذي يهفهف في الأرجاء.
وها أنذا أرقد في المستشفى الجامعي بهامبورج وأنزف وجعا على مقربة من المكان الذي نزف فيه زوجها رودلف دمًا، وسفحت فيه سالمة أيامها السوداء.
ولم أكن نفس المسافر الضاحك الذي جاء إلى دوسلدورف يسابق الطائرة ليصل قبل أن تحط على المدرج، ويمد فضوله سلَّمًا لينزل قبل النازلين، بل كنت حطام إنسان لا يربط جسمه في مقعد الطائرة بحزام الأمان بل يربط روحه بحزام الأمل بعد الاتكال على الله.
وحين استويت على مقعد الطائرة لم أجد أدنى رغبة في قراءة وجوه المسافرين معي، ولا في تصفح مجلة المسافر، ولا التنقل بعيني بين قوارير العطور في معروضات السوق الحرة بالطائرة.
وكنت أتابع الغيم فأغبطه على بياضه بينما يزدحم في قلبي التشاؤم الأسود من الكحل.
وبين سحابة وأخرى قلت سيبدأ المذيع الإعلان عن الهبوط التدريجي للطائرة إلا أنها تواصل التزلج على الغيم لتغيظني.
بدا المشوار من مسقط إلى هامبورج مملًّا وطويلا رغم أن هامبورج ضمن معدل المسافات بين مسقط ومعظم العواصم الأوروبية.
وبدا الجو كئيبًا رغم أن كل أوروبا تمطر صيفا وشتاء.
هبطت اللوفتهانزا في «فلوهافن» أو مطار «هلموت شميت» وقد بدا كبيرا رغم عمره الذي يزيد على المائة عام كأقدم مطارات ألمانيا، وما زال المطار منذ بنائه عام ١٩١٢ يشغل نفس المساحة ونفس المكان، وعايشت مدرجاته ومرافقه مجريات الحرب العالمية الثانية ومآسيها فكانت أرضه مسرحا للحرب وهدفا استراتيجيا للحلفاء الذين نسفوه، فخضع للتجديد عدة مرات وكان آخرها عام ٢٠٠٥م.
مشيت في ممر المطار الطويل بخطوات مهزوزة وأعين متسائلة وأنفاس تتصعد في السماء لتتلقفني الأسهم التي تشير إلى المخارج فتنسيني سبب مجيئي إلى هامبورج.
أواصل التلهي بقراءة اللافتات المرحبة والمكتوبة بعدة لغات بينها العربية لأهرب من المرض، وإذا تذكرته تثاقلت في المشي وأنا أجر ثقل أحزاني.
كانت المترجمة فرح كوهيستاني في الاستقبال في مطار هلموت شميت لتنقلنا إلى الفندق.
وفي الطريق إلى وجهتنا كانت فرح تحاول إذابة الجليد بيننا فتحاصرني بأسئلتها عن ربيع العرب الذي أتى قبل ثلاث سنوات ولم يكن طلقًا كربيع البحتري فكانت إجاباتي على مطر أسئلتها مقتضبة وشاردة فكنت مهموما بخريف عمري بينما هي متفائلة بربيع العرب الذي سيعيدها إلى فلسطين.
بدت هامبورج لؤلؤة الشمال وأكبر موانئ ألمانيا وثاني أكبر مدنها خضراء كغابة كبيرة وقد شكلها الفايكنج كمرتع لخيولهم وعبثهم وجنونهم إلى أن جاء شارلمان إلى نفس غابة الفايكنج ليشيد قلعته عند التقاء نهري «الإلبه والأليستر» لتتخذ هامبورج اسمها من اسم القلعة، وليزحف العمران بعدها فيحول الغابة إلى حديقة، وتتوالى الأمم المتعاقبة عليها لتبني حصونها وبيوتها وأسواقها على ضفاف الأنهار. وبعد أن اتسعت المدينة واجهت تحديات التنقل بين الموانع المائية، لتشهد هامبورج نقلتها التاريخية بربط الأنهار بالجسور والقناطر والمسارات ولتجعل من هامبورج المدينة الأوروبية الأولى في عدد الجسور والقناطر متقدمة على البندقية وأمستردام .
وكانت فرح كوهيستاني تقود سيارتها المرسيدس الفضية الصغيرة كقطعة غيم تنساب على الإسفلت تحت قبب الشجر. وككل الألمان الذين يتلفظون بجملة مسبوقة بضحكة ومتبوعة بضحكات كانت فرح تضحك وتضحك وتضحك بينما تنتحر الكلمات في فمي فأنزف في صمت. وكما حسدت الغيم الأبيض في السماء من نافذة اللوفتهانزا كنت أغبط هذه المترجمة الفلسطينية الضاحكة التي لا تعرف الحزن إلا أنني أكْبرتها حين عرفت لاحقًا أن وراء ضحكاتها امرأة تبكي ومهجة قلب محطم ووالدة تعاني نفس مرضي وأسرة حطمها الطلاق ومع ذلك تضحك، ومع ذلك أنزف.
وكانت حدائق «شتادبارك» أول معالم هامبورج التي صادفتنا ونحن في الطريق إلى وسط المدينة ورغم اخضرارها أشحت بوجهي عن شجرها السامق رغم إنني عدت إلى نفس الشجر فيما بعد عدة مرات لأكتب تحت ظلها مقالاتي وأخاتل الطيور والفراشات لأطبق عليها أجفان عدسة الآي فون. وكانت مقبرة «أوسدورف» حيث تنام سالمة ليست ببعيدة من هذه الخمائل التي نمخرها بسيارة فرح، وقد نام زعيم ألمانيا هلموت شميت بعد عام لوصولي ليجاور الأميرة بنفس المقبرة فسالمة الإسم الجاذب للكبار حية وميتة.
خرجنا من نطاق غابات «شتادبارك» فتلقفتنا «وينتاهود» لتسلمنا إلى ضفاف أليستر حيث تسكن الأميرة سالمة فهي دوما في تفاصيل المشوار ووجعه. اقتربنا من رافد البحيرة ووفق سيرة الأميرة هو ذاته الذي أبحرت فيه جثة رودولف بين سرير المستشفى والرقدة في أوسدورف.
تركنا «وينتاهود» لتستقبلنا منطقة «بارمبرك» فنواصل السير عبر «شوانويك».
نقترب من المريديان والسكارى في شرفته يوشكون أن يشربوا البحيرة بعد أن أتوا على كل براميل الجعة في قبوه المعتم. تواصل فرح كوهستاني نهب الطريق بسيارتها التي تعوي إطاراتها على الإسفلت فتغطي العواء بالضحكات. هذا هو الأطلنطك بعراقته الغائرة في أناقة الأزمنة والسيارات الفارهة أمامه تعطي تصنيفا لافتا للفندق الباذخ. نقترب فتطل ساعة الهابنهوف حيث تنام هامبورج على شبق قطارات الليل وتصبح على فحيح قطارات النهار.
وهاهي سالمة مرة أخرى في حكايات المشاوير فقد جاءت يوما في آنية من كريستال من مدينة «جينا» في طريقها لمجاورة رودولف في أوسدورف.
كانت عقارب ساعة الهابنهوف ترتجف رغم أننا في مايو أو لعله الزمن هو الذي يرتجف وأنا أدخل رعشته دون رغبة. انعطفنا باتجاه اليمين لنعبر جسر اللومباردس الذي يفصل البحيرة فتسير المرسيدس الصغيرة باتجاه «نيورر» بمحاذاة أليستر لتتوقف عند بوابة الفيرمونت فيستقبلنا المدجج ببدلته العسكرية الحمراء وأزراره المذهبة كأحد ماريشالات الحروب ليمد ابتسامة باتساع بوابة الفيرمونت فيرحب بإنجليزية صافية ويشرع في حمل الحقائب المتكلسة بالأحزان.
كانت الغرفة في الدور الرابع بإطلالة على البحيرة وحين وقفت في شرفتها كانت كل هامبورج تتراقص أمام ناظري بل معظم المعالم فيها تختصرها هذه الشرفة. هذه بحيرة أليستر التي تمتد إلى ثمانية عشر هكتارا من إجمالي مائة وستين هكتارا قضمها الهمبورجيون لتشكيل هذه البانوراما الساحرة. وهذه نافورة البحيرة كعرف مهرة جامحة لم تترك الريح لتمسدها. وهذه بجعات أليستر وقد تحلقت ذات ربيع بالأميرة سالمة وأطفالها لتفوز بقضمة من خبز «البريتزل». وهذا شارع يونغفيرشتيغ الذي يقدم صورة لبذخ المدينة ممثلة في أليسترهاوس وبجواره الأبل ستور ويتفرع منه شارع نيور وال أو شارع الماركات الأشهر في المانيا، وقبالتي يشمخ اليوروباساج أشهر مولات وسط المدينة، وإلى يمينه ينتصب مبنى البلدية ببرجه الذي يرسل صورته على التفريعة الممتدة من البحيرة باتجاه الهافن.
هذه كنيسة نيقولا التي دكها الحلفاء واستمرت واقفة لتحكي مأساة الحروب، وعلى مسافة غير بعيدة تطاول كنيسة الميشيل الغيم، وهناك كنيسة سانت بطرس التي ترتفع ببرجها لتتحدى ارتفاع اليوروباساج وبجوارها كنيسة جاكوب. وخلف المشهد الشامخ بقبابه وأبراجه وساعاته التي تضبط الزمن ترتفع أدخنة مراكب الميناء التي تغزل المحيطات لتجعل هامبورج رابع موانئ العالم. وأتجه بنظري إلى الشمال فتقطعه القطارات العابرة لجسر اللومباردس وأستقبل ساعة الهابنهوف مجددا وهي توشك أن تنعس. وأخترق النفق الواصل بين البحيرتين فتحملني المراكب إلى البحيرة الكبيرة لأضيع في زحام أشرعة اليخوت.
نعست عقارب ساعة المحطة ونامت المدينة وساهرت ظنوني إلى أن أشرقت الشمس خجلى بين غيم يبعثره الهواء وغيم يسارع ليأتلف فيخفي الشمس. إنه الويكند والمدينة تصحو مفعمة بالحيوية لتبدأ ماراثونها السنوي. أركض معها أمتارا وأنا أتوجع فأستسلم، فأتركها تبتعد وحيدة كالخيول فأدخل مول اليوروباساج لأبحث عن أول كنزة صوف أسكت بها رعشة الضلوع.
تركنا غرف فندق الفيرمونت إلى شقق فندق بارك حياة الذي يقف في أعرق شوارع هامبورج وعلى تخوم المدينة القديمة.
كان الصيني «تاكا» القادم من سقف العالم في جبال التبت هو مدير عام فندق بارك حياة، ما يضفي نبلاً على الروح الأوروبية التي تعطي الأولوية للأجدر وإن جاء من أقصى العالم، وإن لم تجرِ في عروقه الدماء الزرقاء. سلمت على «تاكا» ونشأت بعد السلام معه صداقة طويلة. وكان «تاكانج» كل صباح يمر على مطعم الفندق ويطوف بطاولات مطعم الإفطار ويساعد في حمل الأطباق الفارغة بل ويتحول إلى نادل. وكنت أرى في تاكانج نفس تجربتي في جريدة عمان حيث تركت كرسي رئاسة التحرير وعشت بين العاملين أستفيد منهم وأتعلم .لقد عمل تاكانج في أكثر من موقع وأكثر من فندق حتى نال ثقة سلسلة فنادق حياة عبر العالم ليكون المدير العام لأحد أكبر فنادق هامبورج.
وبينما بدت العيون تتفتح على جمال هامبورج كان اللقاء بالطبيب المعالج البروفيسور بورست يعيد الأمور سيرتها الأولى فأستقبح البلدة والفندق والأطباء. استبقتُ الموعد الذي حدده البروفيسور بورست للقائه بعيادته فكنت هناك أنتطره قبل أن يصل من بلانكنيزي الثرية بالقصور والمليارديرات. كان طبيا سبعينيا ضاحكا ككل الألمان، فحدثني منذ أول لقاء عن أمه التسعينية وخالته التسعينية أيضا وعن اشتباكاتهما اليومية وعن حبه هو للعرب والبلاد العربية.
بل وتطوع في لقاءات أخرى دون أن «أخرفه» ليحدثني عن حبه فتاة مغربية تدعى رشا تطوان وسيقترن بها قريبا. كان البروفيسور بورست يجلس على كرسيه الدوار ووراءه المراجع والدراسات الطبية والمجسمات البشرية وبجواره جدارية كبيرة لمعركة بحرية ألمانية حامية الوطيس. صحبني لغرفة الفحص فآلمني فحصه، فلم تكن يده «زي المرهم» كما يقول المصريون.
وأوجعتني أجهزته رغم أنها ألمانية وأصلية ويديرها بروفيسور مخضرم. كان يغوص بأجهزته دون تخدير موضعي، ومع ذلك تحملته لعل وعسى أن يبشرني بمحصلة تشخيصية تتقاطع والمحصلة القاتلة لمستشفيات مسقط، إلا إنه صدمني بتطابق رأي الأطباء في البلدين فينقلني كلام بورست من جمال البلدة الذي ينتظرني إلى قبح غرف العمليات والاستئصال والحقن والأمصال والمجهول الذي أنتظره.
لم يكن الموت يخيفني فهو الحقيقة المتربصة التي ستأتي وإن تأجلت، ولكن العلاج الذي يشرحه الأطباء هو الذي يجعل تحمله صعبا قبل أن يبدأ، فالألمان بدافع المكاشفة والمصارحة والشفافية يعرضون كل الاحتمالات التي تجعل المريض يحجز تذكرة العودة مفضلا الموت بهدوء على الموت الذي سيأتي مسبوقا بكل هذا التعذيب الذي يمارسه الأطباء. أمر البروفيسور بتحويلي إلى المستشفى لأواجه قدري، ولأتضرع للخالق بأن يجنبني الاحتمالات السوداء التي يرددها الأطباء.
كان المشهد من شرفة المستشفى الجامعي في أبندورف لا يقل جمالا عن بانوراما شرفة الفيرمونت، إلا أن الفرق يتمثل في بصيص الأمل الذي ما زلت أتشبث به في أن يتقاطع التشخيص الذي خضعت إليه في عمان مع تشخيص الألمان وبهذا الأمل المتوارب كانت هامبورج تبدو نصف مضببة، إلا أن النتائج التي تشير لتطابق التشخيصين أحالت هامبورج في عيني من مضببة إلى مقبرة معتمة. تكومت على سرير أبندورف الذي يجاور النافذة الكبيرة، وكنت أرى منه برج الاتصالات وهوائي التلفزيون الهامبورجي الذي ينتصب في حدائق «بلانتن أون بلومن» وأشاهد مسطحات أبندورف الخضراء وبرجي «مول هامبورج أون مايليه».
ولم تكن الأميرة سالمة ببعيدة فالجدارية بغرفتي التي تقابل سريري تصطخب بأبواق المراكب حيث رسا مركبها القادم من عدن في أول ارتطام لقبقابها على حجر الهافن وحي سانباولو.
جاءت البروفيسورة «فش» محفوفة بطاقمها تسبقها الضحكات لتحدثني عن العملية، دون أن أتابع ما تقول بعد أن طفحت بشفافيتهم حد التخمة، وكنت على يقين من أنني لن أقابل هذه البروفيسورة في غرفة العمليات فسأدخل في غيبوبة التخدير وتتوارى البروفيسورة داخل قناعها الطبي. وستكون مباضعها وحدها التي ستتحرك بحرية وأنا بكامل استسلامي.
وفي يومي الثاني بالمستشفى جاء أحد الرجال ليدفع بسريري في ممرات المستشفى ويسرع بي إلى غرفة العمليات كمشيع لميت إلى نهاياته. وكانت الظنون تسابقني فتبقى تارة معي في الممرات وتارة تعود إلى عمان لتحوم حول مشاريعي الكتابية المفتوحة وأمانيَّ المؤجلة. وكانت الهواجس تتنقل بين أسرة أخرى تجاورني وهي تنتطر التخدير لتغيب عن الوعي وبين مرابع الحياة في عمان حيث أقلامي وأحباري وقرطاسي والقطط الزائرة للبيت والمرازيب العطشى للمطر وسيارتي البائسة التي تركتها دون أن أفصل أسلاك البطارية على أمل العودة السريعة محملا بزجاجات عطر أصفهان ديور وقمصان بولو.
وكنت في غرفة الانتظار القاتلة أستعجل بدء العملية لأكسر القلق إلا ان السماء الرمادية كما تبدو من النافذة لا تريحني والغيمات الدامعة بجواري تحرق أعصابي. مرت العملية بسلام وأسرجت ابتسامة «فش» وعدت إلى الفندق الصاخب في منكبيك شتراسيه مخترقا حدائق أبندورف مرورا «بجرندل آليه» فجامعة هامبورج ففندق «جراندليزي» فمحطة «دامتور» فجسر «لومباردس» فالمتحف فالهابنهوف فمتحف الفنون فشارع سترين شتراسيه فزقاق «بيجين هاجن» فكنيسة جاكوب ففندق هنري وانتهاء بالكونسيرج حازم المصري الذي يحدثني في الدخول والخروج عن صداقته للشيخ زاهر الحارثي.
ومن إطلالة مطعم التفاحة الخضراء في بارك حياة كنت أقلب الطرف في مدينة كبيرة إلا أن المرض يجعلها أضيق من سم الخياط فهناك عملية أخرى تنتظرني بعد شهر، ودورة وجع جديدة وهواجس وظنون في أبندورف. وكان بارك حياة صفحة مخملية لهامبورج فهنا تحتفل بأعراسها وبأعياد الميلاد. وهنا يقضي بعض الكبار فترات النقاهة بعد المرض، ويستريحون بعد قصة حب فاشلة، ويعقدون الصفقات الرابحة، ويهربون بعد قفزة في المجهول غير محسوبة. وبجوار الفندق تعرفت في منكبيك شتراسيه على مقاهي أجمل شوارع هامبورج. ودخلت كنائسها التي تناديني بأجراسها صباح مساء.
ومررت بمسرح ثاليا الذي دخلته الأميرة سالمة لتشاهد أوبرا موسيقى المعابد وصلوات جياكومو ودخلت مكتبة المسرح لشراء كتاب عنه وقميص يحمل لوجو المسرح لأتذكره. وزرت مول كاشتاد الذي يعرض ألواح الشوكولاتة الألمانية، ودخلت مول جاليريا بلافتته الخضراء المميزة، وهرولت نحو مول السي أند أي الذي يعرض بضائع بأسعار ترضي كل الأذواق. ومددت أقدامي نحو الهابنهوف حيث تتلاقى القطارات ويتعانق المسافرون. وعبرت شارع الشتايندم الذي يتلألا بلافتاته العربية ويضج بتكبيرات المؤذنين وبتلاوة القرآن في بقالاته حيث تتلاقى الحضارات والوجوه والألسن.
هذا المسجد التركي في الشتايندم حيث يلتقي الأتراك ومن معهم خمس مرات في اليوم خلف إمام واحد ويخرجون إلى الشارع ليجمعهم حب رجل واحد أيضا هو أردوجان. وهذا مطعم الأمير بأطباقه الشامية وجراحاته السورية فأدخله وهو يصدح بالأطلال وأنت عمري ويامسهرني. وهناك مطعم طهران الذي أحب أطباقه وإن لم أستسغ سياسات العاصمة التي تحمل اسمه. وهذا مطعم كابول الذي يؤكد على حضوره رغم غياب الدولة وتبعثر الناس. وأترك الشتايندم لأواصل السير باتجاه منطقة «السان جورج» المتاخمة التي أهدت اسمها لأشهر مستشفيات المنطقة فأستريح تحت أطول شجرات حديقتها المعمرة لأتابع أسرة تلهو مع كلبها و أطفالا «يطَّاشون» بماء النوافير. وأحلق مع سرب حمام يتقافز لنيل قضمة خبز و حبة «فرَّاخ».
وواصلت التنقيب في المدينة لأكتشف مناطق جديدة مثل الحي البرتغالي بمطاعمه وأطباقه وشرفة السوفوتيل المطلة على رافد نهر أليستر . وبينما العملية الجراحية في طريقها للشفاء بفضل من الله وآثارها توشك أن تختفي إلا أن العملية الأكبر تقض مضجعي فهي على بعد شهر من الزمان، وعلى مرمى حجر في المكان. إنه «أبندورف» مجددا إلا أن البروفيسورة «فش» تخلف وعدها فتنشغل بتكليف طبي آخر فتسلمني لطبيب إيراني شاب وقد زكته وأعلنت ثقتها في مهاراته. وها أنذا بين الإحباط بغياب الطبيبة الكبيرة وبين الرجاء لعل الله يريد لي خيرا على يدي هذا الطبيب الشاب فكما يقال «يوضع سره في أضعف خلقه».
كانت العملية صعبة قبل أن تبدأ لذلك استبقت احتياطيا بالتوصية باختيار مكان الدفن. وكانت صعبة أثناء إجرائها، وصعبة بعد الانتهاء منها ولا تزال تبرر قناعاتي بأن الفرس ما دخلوا في أمر إلا أفسدوه. انتهت أيام المستشفى التي أشرفت فيها على الموت وسجل الدم مستوياته المقلقة إلا أن الله تداركني فكتب لي الحياة وعدت بعد انتهاء المدة المحددة بالمستشفى إلى نفس الفندق وإلى نفس التقليب في ألبوم المدينة الكبيرة. ونزلت بعد أيام إلى مطعم التفاحة الخضراء حيث مدير عام الفندق مستر تاكانج ما يزال يغسل الصحون. وحيث السمراء «شيلا» تفرش أهدابها السوداء وهي تحمل كوب قهوة كباتريشيا في قصيدة الشاعر الأشهر ذياب العامري.
ومرت الأيام لأواصل التمدد في جغرافية هامبورج فأصل «ألتونا» المدينة التي التحقت بهامبورج قبل مائة عام. وتيممت صوب النهر لأقترب من بلانكنيزي التي تمثل بمدرجاتها الجبلية بلدة الشريجة لهامبورج. ومشيت صوب مزارع التفاح والفراولة في «ألتسلاند» لأقترب من مرابع أصهار الأميرة سالمة. وكررت الزيارات لبريجادوف الحاضرة في علاج الحوادث وجرحى الحروب فدخلت قلعة البلدة وحدائقها. ومضيت نحو راينبك حيث أثرياء هامبورج يسكنون بجوار البحيرة الساحرة.
وكانت الخطوة العلاجية التالية أن أخضع لستٍّ وثلاثين جلسة إشعاع في المستشفى الجامعي بأبندورف فأدخل كل مرة في التابوت الذي يدور ويتحرك ويحدث أصواته المزعجة ويحجبني عن التواصل مع المحيط الخارجي إلا باستغاثة الضغط على الزر. ثم جاءت الخطوة العلاجية الرابعة ببتر جراحي جديد في عيادة بهامبورج ألشتاد حيث التقيت وجوها طبية جديدة.
بعدها استأجر الابن فيصل سيارة ليكسر تراتبية العلاج وضجره ولنستثمر المسافات بين المواعيد في اكتشاف المحيط حولنا فانتقلنا من ضواحي هامبورج إلى مدن تجاوز هامبورج مثل «كيل وهانوفر وبريمن ولوبيك ونويمنيستر وشويرن وبرلين وبون وويزبادن وفرانكفورت وميونيخ وجارميش وهايدل برج ودريزدن ودوسلدورف».
ثم تطور الترحال من الضواحي إلى المدن إلى الدول فزرنا عواصم دول الجوار الألماني.
وبين محطة وأخرى أعود إلى هامبورج وإلى صفصاف وسنديان وصنوبر أوسدورف لأسكب في أذني الأميرة سالمة الحكايات عن مدن زارتها ومدن تعذبت فيها ومدن جاعت فيها وعطشت لتملأ القرنين التاسع عشر والعشرين بحكاياتها الموجعة. وأثناء ترددي على هامبورج عشت جزءا من قصة مدينة تتجدد فقد قام فندق الفونتنيه على أنقاض الإنتركونتنتال ليصنع بشرفته على البحيرة هامبورج أخرى. وافتتحت المستشارة ميركل الأوبرا الجديدة في الهافن ليقترن بأطول سلم كهربائي. وعلى نفس مبنى الأوبرا ينهض فندق «الوست إن» بشرفة مفتوحة على ميناء هامبورج. وبينما أغلق مطعم برج التلفزيون والاتصالات افتتح الراديسون بلو شرفة في دوره السادس والعشرين للإطلالة على هامبورج.
وهامبورج أكبر من مجرد حجر وشجر ومدر هي دار الآداب والفنون وبلاد العروض الموسيقية. وهامبورج بلاد عشرات المتاحف والمكتبات والمعارض، وعلى أرضها تشمخ أكبر مجلات أوروبا انتشارا وتأثيرا. وفي كل مرة أطأ أرض هامبورج أشعر بتوتر مباضع الأطباء وبوخز الحقن وانكسار الروح المستسلمة لأجهزة الإشعاع ومرارة الأمصال والدواء.
وكلما غادرتها أطل على الصفصاف لأتذكر الراقدة في الظل وهي مسبلة الأجفان وأستحضر صخب المراكب فسالمة تعود للإبحار. ولأنني نزفت على أسرتها كثيرا ولربما صرخت دون أن أشعر فقد باتت هي ومستشفياتها وأطباؤها صفحة من زمني المبعثر أعود إليها لألملم روحي وأبتعد عنها لأعاود البعثرة ولم الشمل، «فالسفر طويل لولا الوصول» كما يقول يوهان فولفغانغ فون غوته. والوصول إلى هامبورج طويل وممل لولا السفر.
مسقط في الأول من نوفمبر ٢٠١٨م.