السياحي
فاس المغربية عبق التاريخ وملتقى الحضارات
يفتخر المغاربة بالخصوصية الفريدة لمدينة فاس لكونها تشكل متحفا نابضا بحياة مستمرة عبر القرون الموغلة في التاريخ، لا مجرد مواقع باردة وبنايات صماء مهجورة. فمن أين استمدت مدينة فاس هذه الخصوصية؟وما هي تجلياتها؟ وما هي أهم مظاهرها التي بقيت تقاوم إكراهات الزمن الحديث؟ فاس، مهد العلم وملتقى الحضارات: تحتل مدينة فاس مكانة خاصة في الرصيد التاريخي والتراثي والثقافي المغربي. بوصفها شاهدا عمرانيا حيا على ذاكرة حافلة تؤرخ للتطور السياسي والثقافي للدولة و المجتمع في المغرب الأقصى.
د. سعيد بوعيطة/المغرب
وعلى خلاف جل الفضاءات التاريخية المشابهة التي تحولت إلى شواهد معزولة عن الحركة السكانية في مختلف أنحاء العالم، تكاد تنفرد مدينة فاس بصفتها المدينة العتيقة التي ما زالت تنبض بالحياة الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية في أحياء وبيوت و معامل تقليدية صمدت في وجه مختلف عوارض الزمن الطبيعية والعمرانية و التحولات الكاسحة. تتراص في منعرجات أزقتها الضيقة، محلات الحرفيين البسطاء، أمام الأبواب التاريخية و الأسوار الحصينة وفي حضن مدارسها القرآنية العتيقة وباحة جامعة القرويين(من بين أقدم جامعات العالم). مما يحقق استمرارية مسلسل تاريخي ضارب قي القدم. على الرغم من اصطدامه اليوم بتحديات جمة. تطرح أكثر من علامة استفهام وقلق بشأن مستقبل هذا المتحف العمراني الحي. إن العاصمة الروحية للمغرب التي احتفلت قبل سنوات بقصة حضارة عمرها 12 قرنا، من خلال احتفالات مكثفة، كونها تؤرخ لتأسيس الدولة الإدريسية في القرن الثاني الهجري. ظلت محتفظة بموقع القلب النابض للحياة السياسية والثقافية للمغرب. تكشف التفاعلات السكانية و الحضارية التي صاحبت بناءها عام 789م، سر هذا العمق الحضاري المتواصل. فقد استقبلت المدينة في بدايتها هجرتين من نوع خاص. هجرة العائلات الأندلسية الفارة من حملات محاكم التفتيش و القمع الأيبيري. ثم العائلات العربية الوافدة من القيروان. إضافة إلى تجمع يهودي مهم. هذا التفاعل السكاني، كان مبعث روافد حضارية وثقافية طبعت خصوصيتها التاريخية.
جامعة القرويين:
لم يتفق المغاربة على وسم مدينة فاس بعاصمتهم الروحية و العلمية عبثا. ذلك أن هذه المدينة العتيقة تزخر بعشرات المساجد و المدارس العتيقة التي جعلتها مركزا علميا مزدهرا. تطورت في حضنه مختلف العلوم الفقهية و الفكرية و الطبيعية وغيرها. لعل في مقدمة هذه المعالم جامعة القرويين التي شيدتها عام 859م فاطمة بنت محمد الفهري القيرواني. وتواصل إشعاعها إلى منتصف القرن العشرين. قبل أن ينحصر الاهتمام بنظام التعليم العتيق بتشييد المؤسسات التعليمية الحديثة منذ دخول الاستعمار الفرنسي. لقد شملت قائمة الأسماء التي عبرت ذاكرة هذه المؤسسة الدينية والتعليمية التي تعتبر أقدم جامعة في العالم، فلاسفة وعلماء كبار من حجم:ابن زهر، ابن البناء، ابن ميمون، ابن باجة، ابن خلدون، ابن عربي، لسان الدين بن الخطيب الذي ما زال البيت الذي أقام فيه شاهدا على العصر الذهبي لحاضرة فاس. وفضلا عن العرب والمسلمين، تخرج من جامعة القرويين البابا سيلفستر الثاني(غربيرت دورياك الذي شغل منصب البابا من عام 999م إلى 1003م. وينسب إليه فضل إدخال الأرقام العربية إلى أوروبا). حول القرويين، زخرت المدينة العتيقة لفاس خاصة في العهد المريني (القرن الرابع عشر)بعدد كبير من المدارس التقليدية التي تعكس اليوم العبقرية العمرانية لحرفيي المدينة أهمها: المدرسة المصباحية (أبو الحسن المريني)، المدرسة البوعنانية(أبو عنان)، وقبالتها مدرسة الصفارين التي يعود تأسيسها إلى عهد أبو يوسف المريني عام 1280م. كانت هذه المدارس بمثابة مؤسسات تأهيلية. تسمح للطالب بالانتقال إلى الدراسات العليا بجامعة القرويين. حديقة جنان سبيل:
أسست حدائق جنان السبيل في القرن 18 من طرف السلطان مولاي عبد الله داخل موقع تاريخي لمدينة فاس. تحمل هذه الحديقة كل معاني الإرث التاريخي والجمالي الذي طبع هذه الحاضرة المغربية على مدى قرون عديدة. تمتد على مساحة 8 هكتارات وتضم حوالي 1000 نوع من المغروسات وتشبه في شكلها ومرافقها حدائق الأندلس المفقودة. لا تزال هذه الحديقة صامدة وجميلة ومفعمة بالكثير من الهدوء والسكينة على الرغم مما يهددها بسبب شح الماء. وقد جعلت منها نباتاتها الفريدة وتنظيمها المميز جوهرة في عقد التقاليد العربية الأندلسية. إن هذا الفضاء المشبع بالتاريخ، جعل منها ذاكرة تمثل أقدم وأعرق حديقة عمومية تمتاز بها العاصمة الروحية للمملكة المغربية. حديقة من الماضي متناغمة مع الحاضر، كما أنها قادرة على الصمود مستقبلا. تتوفر هذه الحديقة على سبعة أبواب حديدية ضخمة مزركشة. أما داخلها فيضم العديد من النافورات والجداول والأحواض التي تشبه في شكلها ومرافقها حدائق الأندلس. كما تضم أيضا مستطيلات ومربعات عشب وأزهار وأشجار كثيرة من مختلف الأنواع. قدر عددها بنحو ألف نوع. بعضها نادر ولا توجد إلا في الصين والهند. مثل أشجار الخيزران التي غرست قبل قرون في هذه الحديقة المدهشة. بعد صلاة عصر كل يوم، حين يختتم العابرون جولة مطولة في أزقة المدينة القديمة عبر أبي الجنود أو كما يسميها المغاربة بوجلود أو «البطحاء» أو «الملاح»، يمرون حتما بحديقة جنان السبيل. كما هي عادة الباحث المغربي جورجي عبد الكبير. حيث الاخضرار يمتد عدة هكتارات ومذاق السكينة هو الطاغي. بعد دخول الحديقة يجد الزائر نفسه في فضاء طبيعي سمته الهدوء والجمال الطبيعي، الذي يختلف تماما عما يوجد خارج الحديقة من ضيق. حيث عتمة الدروب الضيقة وصخب الحياة اليومية في فاس العتيقة. تتوجه أفواج من الناس إلى حديقة جنان السبيل عبر أبوابها الضخمة المفتوحة على أسوار المدينة القديمة. حيث يهرول الكثير من النساء والأطفال لكي تتبوّؤوا مكانا جميلا و مريحا داخل الحديقة. سواء على مقاعدها الحديدية القديمة أو فوق دكاتها الإسمنتية أو تحت الظلال الوفيرة لأشجارها، أو من أجل التجول بين جداول مياهها وممراتها الرحبة. يشير الباحث في التاريخ الأستاذ محمد بن عبد الجليل إلى أن حدائق جنان سبيل قد تأسست في القرن الثامن عشر من طرف السلطان مولاي عبد الله داخل موقع تاريخي لمدينة فاس. وكانت عبارة عن غابة صغيرة تقع بين منطقتي «أبي الجنود» و«فاس الجديد». بحيث أمر السلطان مولاي عبد الله بإزالة الحشائش والنباتات الصغيرة منها. ثم أمر السلطان الحسن الأول بغرس صف النخيل بعد أن حرص على إقامتها وسط المدينة القديمة. حيث وفر فيها كل سبل الاخضرار والحياة. كما استقدم إليها مغروسات متنوعة من أوروبا. حتى أضحت من أجمل وأكبر الحدائق بالمغرب و شبيهة بالحدائق الأندلسية في مجال هندسة المغروسات وطريقة تصفيفها وتصريف المياه عبر الجداول والبحيرات التي ما زالت شاهدة على العصر الذهبي للحديقة. ويضيف الباحث بن عبد الجليل أن النباتات الفريدة والتنظيم المميز، جعل من حديقة جنان السبيل جوهرة في عقد التقاليد العربية الأندلسية. لذا يعتبر هذا الفضاء المشبع بالتاريخ، أقدم وأعرق حديقة مفتوحة للناس في المغرب. فقد شكلت هذه الحديقة تاريخيا وما تزال مكانا مفضلا لالتقاء العشاق. ومازال يقصدها الكثير من الشباب والشيوخ لأجل الاستماع للأغاني الكلاسيكية لأهم كبار المطربين أمثال محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأم كلثوم وليلى مراد، التي تشنف أسماعهم طوال اليوم انطلاقا من المقهى الوحيد المتبقي داخل الحديقة. لقد كتب عدد من المؤرخين الكثير من الروائع والذكريات عن جنان السبيل ونظم حولها الشعراء والزجالون الكثير من قصائد المدح، وتغنى بها عدد من المطربين، فهذه الحديقة التاريخية ما زالت حاضرة في وجدان الكثير من سكان المدينة وزوارها، وما زالت تحتفظ بتوهجها. الدباغة في فاس:
لا يمكن لزائر مدينة فاس، خاصة المدينة القديمة (أو فاس البالي كما يسميها أهل فاس)، ألا يزور دور الدباغة. باعتبارها أحد أشهر المعالم السياحية بالعاصمة العلمية للمغرب. إذ يمكن أن يكتشف عملية إعداد الجلود من المادة الخام إلى المادة التي تصنع منها الأحذية والحقائب وغيرها من المبيعات الجلدية. توجد في فاس عدة دور دباغة. حيث عرفتها المدينة منذ عقدين من الزمن على يد اليهود الذين أسّسوا لهذه التجارة. تستمر عملية إعداد الجلد بضعة أيام. غير أنه يمكن الحديث عن عدة مراحل كبرى. أهمها مرحلة الغسل الأولي للجلود وتركها مدة تحت الشمس. ثم مرحلة معالجتها بمواد طبيعية مثل فضلات الحمام كي تتخلص الجلود من روائحها. وبعدها مرحلة وضعها في الأحواض الملونة ثم تجفيفها. وأخيرًا مرحلة التدليك التي تتيح إنتاج جلود صالحة للاستخدام. نظرا لعراقة هذه الصناعة بفاس، يعد المغرب من أشهر الدول في دباغة الجلود. حيث تميز منذ القدم بوفرة الجلود نظرا لوفرة المواشي. وساهمت الدباغة في تطوير العديد من الصناعات والمهن الحرفية. على رأسها حرفة الجلود وتصنيعها بطرق جد بسيطة وتقليدية. وتتحول الجلود إلى حقائب زاهية وأحذية جميلة ومنتجات جلدية مختلفة الألوان والأشكال يطبعها الطابع المغربي التقليدي الأصيل. وكان العمل بدار الدباغة مصدرا للغنى، حتى سميت دار الدباغة منذ القدم إلى يومنا هذا بـ «دار الذهب». نظرا للمردود الغني الذي يحصل عليه صاحب الدار. وبذلك كان هؤلاء الدباغون في فترة من الزمن فئة اجتماعية ذات مكانة كبيرة في المجتمع الفاسي. إلا أن الاسم ظل كما هو، على الرغم من تراجع المداخيل مع مرور الوقت. تعتبر «دار الدباغة شوارة» بمدينة فاس العتيقة من بين أربع دور للدباغة التي ما تزال شامخة بمدينة فاس. إنها الأكبر حجما والأكثر إنتاجا. إذ تشتمل على عدة أحواض وصهاريج لغسل الجلود ومعالجتها قبل أن تصبح جاهزة للاستعمال والتسويق. تنتج دار الدباغة «شوارة»، جلود الغنم والماعز والبقر. تستخدم بعد معالجتها من طرف عدد من الحرفيين ويتم تصنيعها في حي الشرابليين المتواجد بأحياء فاس البالي. إذ يعملون على إنتاج أحذية جلدية مثل «البُلْغَة» وهي مداس الرجل. ويذكر أن المصريين اقتبسوها من المغرب الذي كان يصدر لهم هذا النوع من الأحذية وهي معروفة بهذا الاسم بالأندلس أيضا. و «الدَبَّاغ» هو الذي يدبغ الجلد لتشذيبه وجعله صالحا للصنع.
فاس في الشعر العربي:
تبوأت مدينة فاس مكانة متميزة في الوجدان الجمعي للمغاربة. بل امتدت هذه المكانة والحظوة والشغف بهذه المدينة إلى عدد غير قليل من الأدباء والشعراء والفنانين وغيرهم. فحفل الإبداع والفن بمختلف ألوانه وأجناسه، بكثير من صور صدى هذا الحب. كما تمثل في أعمال شتى:لوحات وروايات وأغانٍ وأزجال وقصائد معربة وقطع الملحون الراقية. نذكر على سبيل المثال لا الحصر: كتاب «فاس في القصيدة العربية المعاصرة».
يؤكد صاحب هذا الكتاب أمجد مجدوب رشيد على أن العديد من الشعراء قد احتفوا بهذه المدينة سواء قديما أو حديثا. وقد ذكر من بينهم: الشاعر عبد الله المغيلي، والشاعر محمد المهدي الحجوي والشاعر محمد الوجدي الغماد، والشاعر محمد التهامي بن حماد الحمادي المكناسي، والشاعر علال الفاسي، والشاعر عبد الكريم بن ثابث وغيرهم كثر.
حيث تغنوا بجمالها وطبيعتها وجبالها ودروبها ومظاهرها الثقافية والحضارية ومعمارها وقيمها الأصيلة. فحفلت هذه المدونة الشعرية التي اتسعت وفاضت دواوين وقصائد تصف الحب والتعلق بالمدينة فاس. كما تشكلت كوكبة جديدة من رواد الشعر العربي( أوردهم الباحث أمجد مجدوب رشيد في كتابه «فاس في القصيدة العربية المعاصرة» وعلى رأسهم الشاعر أدونيس، الشاعر محمد القيسي من فلسطين والشاعر محمد السرغيني و أحمد المجاطي والشاعر محمد الخمار الكنوني والشاعر محمد الصباغ والشاعر عبد الرفيع جواهري والشاعر محمد بنيس.
قدم الكتاب أكثر من سبعين مقطعا شعريا من قصائد قيلت في فاس، من طرف شعراء اختلفت طرائقهم الفنية وأساليبهم وأنساق كتاباتهم وتفاوتت أجيالهم وأعمارهم وحساسياتهم الشعرية المتنوعة. بحيث نجد مثلا، الشاعر العابر للأجيال محمد السرغيني إلى جانب شاعر ثمانيني كمحمد الأشعري إلى جانب شاعر تسعيني كأمجد مجدوب رشيد.
كما يعطي الكتاب صورة لجوانب عن اللغة الشعرية لما تتناول موضوعا واحدا من طرف مجموعة من أبرز الشعراء. فنحن نشتم نكهات ونتذوق طعوما شتى ونحن نقرأ للشاعرة أمينة المريني ومحمد الحلوي والشاعر السوري مصطفى عكرمة والشاعر محمد علي الرباوي، والشاعر أحمد المجاطي والشاعر أحمد بلبداوي والشاعر الليبي أحمد حسن السوس، والشاعر العراقي أمجد ناصر حسون، والشاعر التونسي أحمد اللغماني، والشاعر أحمد مفدي والشاعر مصطفى الشليح، والشاعر رشيد المومني والشاعر نور الدين الزويتني، الخ…
مراكش في: 8 غشت 2018