السياحي
فضيات منقوشة في محلات الحاج محمد البلوشي .. أروقة سوق “الظلام” تشع “باللمعان”
أثناء التجوال في سوق الظلام، لاح بريق المشغولات الفضية من إحدى المحلات، ما إن دلفنا إلى المحل، إذا بعبدالرحمن بن محمد البلوشي الذي إستقبلنا بابتسامة ترحيبية، فغاصت معه التكوين في تفاصيل كثيرة أسهب في الحديث عنها، و روى حكاية تعود أصولها إلى الأيام الماضية التي بدأ فيها والده في تأسيس تجارته من الصفر حتى يومنا هذا.
حوار: أنوار البلوشية
يجول النظر حول المكان، ففي كل ركن حكاية وفي كل زاوية قصة، حيث استهل عبدالرحمن حديثه قائلا: لأحكي لكم قصة البدايات لابد لي من الرجوع إلى ذكريات قديمة، وتفاصيل عرفتها من والدي الذي أسس هذه التجارة منذ ما يقارب ثلاثين عاما. بدأ الوالد أولى أيامه في السوق وهو يعمل على حمل البضائع (حمالي)، ثم بعد ذلك أنشأ بسطة بسيطة يفرشها في أحد الأركان داخل السوق، وكما كانوا يسمونها سابقا (ليلام)، كان يجلب الصخور والمحار من جانب البحر ويبيعها في بسطته للسياح، وفي بعض الأحيان يجلب الملابس والأقمشة من دبي ويبيعها. ثم أصبح لديه محل في (الكورنيش) حيث يعد المحل الأول لنا في بيع الفضيات، ثم افتتح المحل الثاني، وتوالت المحلات لدى العائلة، حتى وصلت ما يقارب 9 محلات داخل السوق، وأصبحنا أنا وأخواني نتولى إدارة المحلات والعمل فيها.
نقوشات الفضة الدقيقة
وأضاف عبدالرحمن قائلا: الفضة أصبحت مصدر الرزق الذي نعتمد عليه كعائلة، فهي التجارة التي أسسها الوالد وتعلمنا التعامل فيها والمحافظة عليها منذ الصغر. وعالم الفضيات بحر واسع ومتشعب، لذلك نرتحل إلى الدول المختلفة ونجلب البضائع التي نزود بها المحل، ونتعامل مع التجار في دول مختلفة، مثل الهند والنيبال وأفغانستان وتايلند وتركيا، وتعد إيطاليا من فضلى الدول التي نجلب منها البضاعة، ولديهم هناك مكائن تعمل على الفضة لا توجد لدينا هنا في عمان، حيث تكلف الكثير لامتلاكها، وكذلك نتجه إلى دولة الإمارات الشقيقة لصياغة بعض المشغولات الفضية. أصبح من النادر الحصول على عمانيين يعملون في مجال صياغة الفضيات، عدد قليل جدا من كبار السن الذين يتقنون هذه الصناعة، وهم معدودين جدا في منطقة الباطنة وعدد منهم في نزوى، لذلك أصبح الاعتماد الأول على الوافدين من الجنسية البنغالية والراجستانية، فهم من ينجزون أعمال الصياغة على العصي والحلي وغيرها، فهم من يصيغون لنا المقتنيات المختلفة. وتتراوح مهارتهم بين من هو محترف وله دقة عالية في العمل ومنهم بأقل مستوى، وكل شئ له ثمن خاص به، ونحن تعلمنا من الصواغ الأصليين في بعض الأمور وأصبحنا نصوغها بأنفسنا، ولكن النقوش القديمة ذات الدقة العالية يصعب علينا كثيرا تقليدها بسهولة.
مقتنيات ثمينة ونادرة
للفضة تاريخ عريق في السلطنة من شمالها إلى جنوبها، المشغولات الفضية والحلي النادرة لازالت متواجدة لدى الكثير من أبناءها. لاحظنا وجود القطع الثمينة في محل الحاج محمد وبسؤالنا عنها ذكر عبدالرحمن: فترة العيدين “الفطر والأضحى” ينتعش سوق الفضيات، حيث يتوافد الناس من شتى أنحاء السلطنة لشراء حاجياتهم من “سوق مطرح”، ومنها يبدأ التداول في بيع وشراء القطع الفضية النادرة والجميلة والثمينة التي من النادر الحصول عليها، فالكثير من المقتنيات الثمينة حصلنا عليها من أصحابها العمانيون الذين احتفظوا بها منذ سنوات، وتساوي الكثير لدقة صناعتها، فمنها ما نشتريها حسب وزنها، ومنها ما تقاس قيمتها حسب قدم تاريخها وأصالتها العريقة، فتوجد لدينا قطع يعود تاريخها إلى ما قبل 40 عاما. لذلك أصبحنا لا نبيع الكثير من القطع، بل نحتفظ بها ونحافظ عليها، ففي السابق كنا نحصل عليها بكثرة ولكن الآن أصبحت أكثر ندرة ومن الصعب الحصول عليها. وفي بعض الأحيان إن أقدمت على بيع إحداها فأبيعها على أشخاص أثق بهم، وبأمانتهم في الحفاظ على هذه القطع، لأننا مررنا بتجارب سابقة عندما كنا نبيع القطع الثمينة والنادرة، والكثير منها خرجت من السلطنة ونسبها الأشخاص إلى دول أخرى كتراث لهم، لذا أصبحنا لا نتخلى عن هذه الفضيات الثمينة بقدم تاريخها، نحن لسنا فقط محل لبيع وشراء الفضيات بل حملنا على عاتقنا مهمة الحفاظ على الهوية العمانية وتاريخها. الفضيات النادرة لها تاريخها كما أن لها قصصها الجميلة والمؤثرة، فقد أتى إلينا أحد الأشخاص من ولاية الشرقية، أراد بيع حلي والدته بهدف عمل صدقة جارية باسمها بإقامة ثلاجة للماء، أو التصدق به على الفقراء.
سوق مطرح ومواسمه
وأما مرتادي السوق الذين يواضبون على شراء القطع الفضية فتحدث عنهم عبدالرحمن قائلا: زبائننا بالدرجة الأولى هم السياح الأجانب، ثم يأتي بعدهم الخليجيين، إضافة إلى عدد كبير من العمانيين، فالكثير من العوائل العمانية التي تحب اقتناء الفضيات لتزيين المنزل وغيره، حيث نتعامل مع خمسة عوائل عمانية بشكل دائم، ونعرض عليهم القطع الجديدة التي نحصل عليها، وكذلك نتعامل مع المتاحف المختلفة في السلطنة. لا توجد تحديات كثيرة في عملنا لأننا نجتهد من أجل عملنا، وكلمة حق تقال، فالوالد هو من بنى هذه القاعدة المتينة وهو من اجتهد أكثر لبناء هذه التجارة التي أتينا نحن أبناؤه بعد ذلك للعمل فيها، ونحن نجتهد ونسعى من أجل استمرار هذه التجارة ونورثها لأبناءنا، ونعودهم من الآن على فكرة استمرارهم من بعدنا في هذا المجال، الوالد لم يقصر في تعليمنا وتدريسنا، ومن ثم نأتي للعمل في تجارة العائلة.
وأضاف عبدالرحمن: سوق مطرح من الأسواق المختلفة والفريدة، وتجارتنا تعتمد كثيرا على السوق وأحواله وظروفه ومواسمه، فبالرغم من وصولنا إلى التكنولوجيا والتطور إلا أن التعامل في مجال الفضيات في سوق مطرح لازال كالسابق، حيث نتعامل حسب الخبرة المتوارثة، لا نحتاج في عملنا إلى تواصل تكنولوجي هائل حتى ندير هذه المؤسسة، وإنما هو تعامل بسيط يمكن كسب خبرته من خلال التناقل فيما بيننا كعائلة واحدة، لذلك لم أرى بضرورة دراستي لتخصص مختص في مجال التجارة حتى أستطيع الانخراط في السوق ومعرفة التعامل فيه. وأفضل الجلوس في المحل ومباشرة العمل فيه بنفسي.
المزادات العالمية والأحجار
محل الفضيات الذي يملكه والد عبدالرحمن يتوسط أقدم الأسواق العمانية، جاء سؤالنا حول علاقة هذا السوق بالإنترنت والطفرة الهائلة في برامج ومواقع التواصل الاجتماعي، فاجاب عبدالرحمن قائلا: لم ننخرط حتى الآن في برامج التواصل الاجتماعي، فتجارتنا بعيدة عن هذا المجال ولا نملك الوقت لها. ولكن أستعين بالإنترنت لمتابعة المزادات العالمية الخاصة بالفضيات، وأعتمد عليها لرصد هذه المزادات التي تقام حول العالم وزيارتها، مثل مزاد ايطاليا الذي نشتري منه كثيرا، فلدينا مزيج من التراث العالمي مثل العثماني وغيره، نجلب هذه القطع من أهم المزادات في العالم مثل مزاد دبي ومزاد بريطانيا كذلك، فالمحل هنا كالمتحف والكثير من العوائل تأتي حتى تلقي نظرة على المعروضات وتتعرف عليها، وكذلك بعض الرجال ممن يصحبون أبناءهم لتعريفهم بهذا الإرث الحضاري، ومنهم من يقضي ساعات الانتظار في الاستمتاع بهذه المعروضات حتى تنتهي عائلته من التسوق، وكذلك طلاب المدارس والجامعات يرتادون المكان، وأسعد كثيرا بتقديم المعلومة وإيصالها إليهم. لا نتاجر فقط في الفضيات وإنما نملك الأحجار المختلفة والصخور النادرة، وعالم الأحجار واسع ومتشعب كثيرا، وللأحجار زبائن يطلبونها بالاسم، ويستخدمونها في أغراض مختلفة. وتكثر الاوهام في فهم الغرض منها، فمن المواقف التي حصلت اتى إلي شخص يعاني من البدانة وطلب مني ان أعطيه حجر يساعده على النحافة! ومنهم من يريد حجر يبعد عنه العين والحسد، ومنهم من يسعى إلى جلب الرزق بهذه الأحجار وغيرهم، نواجه الكثير من المواقف في هذا المجال. الأحجار العمانية نادرة لدينا في المحل، بالرغم من أن أرض عمان مباركة وتكمن فيها الكثير من الكنوز، ولكن لا توجد لدينا الأجهزة اللازمة لصقلها، وهي مكلفة كثيرا.
الفضة والذهب بحران
عند ذكر الفضة لابد من الحديث عن الذهب، فمحلات الفضة تتسيد صدر السوق ومشرعة أبوابها، وللذهب ركن خاص وباب منفرد للدخول في عالمه. حيث قال عبدالرحمن: الذهب والفضة أصف علاقتهما ببعض كالنحو والصرف، هما عالمان مشابهان ويندرجان ضمن المجوهرات والحلي والاكسسوار والعملات وصناعة الأدوات المختلفة لاستخدامات الحياة، فهما تجارتان عالميتان ومعاييرهما متشابهة تقريبا، ولكن لا يمكن الدمج بينهما في قالب واحد، فهناك اختلاف كبير بين سوق الفضة وسوق الذهب، فبالإمكان التعامل مع القطع الفضية حسب تاريخها وأحيانا حسب وزنها، فذلك يعتمد على نوعية القطعة، وأيضا يمكننا الانتظار لفترة طويلة حتى نحصل على من يشتريها بسعرها الذي تستحقه، ولا نستعجل على بيعها. ولكن الذهب يتطلب الاحتياط في مجاله والحرص أكثر عن الفضة فهو أثمن وخسائره كبيره، فالدخول في عالم الذهب به مخاطر جمة يجب دراستها ومعرفة التعامل معها. توجد عوائل عمانية في مجال الذهب في السوق، ولهم خبرتهم وباعهم الطويل وسمعتهم الحسنة في سوق الظلام. ولتقارب بعض الأسس في تجارة الفضة مع تجارة الذهب فذلك منحنا ميزة حتى نفهم عالم الذهب ونتعامل فيه بشكل شخصي باحترافية أكثر، ولكن ليس الإنخراط فيه كتجارة. وأضاف عبدالرحمن قائلا: ومن الأمثلة على ذلك، كثيرا ما يتأثر سوق الذهب بالأوضاع السياسية والاقتصادية في العالم، ولم يكن قد تأثر سوق الفضة بشكل كبير. ولكن لأول مرة شهدنا تأثر الفضة بالأوضاع السياسية في المنطقة هذا العام، فقد قل التعامل في الفضة خلال الأشهر القليلة الماضية، ففي فترة العيد اعتدنا تواجد العملة الخليجية بكثرة ولكن هذا العام لاحظنا تناقصا كبيرا في ذلك، أما من الناحية المحلية فالأوضاع كما اعتدنا عليها والحمدلله.
منطقة خصبة للاستثمار
وفي ختام حديثه ذكر عبدالرحمن: سوق مطرح هو أرث تاريخي أصيل وعريق، هو حق أجدادنا وآباءنا الذي ورثناه ويجب علينا المحافظة عليه، لذلك أرى بضرورة التعمين في السوق، وحث الشباب على إدارة المحلات بأنفسهم في هذا السوق الذي يعد منطقة خصبة ويجب استغلالها، فلابد من إيجاد وسيلة حتى تكون هذه المحلات بأيدي الشباب العمانيين وليس العمالة الوافدة، فالمحلات هنا ما يقارب نسبة 80% تعد وقف للمساجد، وقليل ممن تجدهم يملكون هذه المحلات، ولكن بالرغم من ذلك فأبناء هذه الأرض أولى بالاستفادة من خيراتها، فيمكن أن يستغل الشباب هذا السوق للاستشمار في مشاريع صغيرة ومتوسطة في إدارتها بحكمة. واتمنى ان تتولى وزارة الأوقاف عملية التنظيم في هذا الجانب لتعم المنفعة بشكل عادل يصب في مصلحة السوق وأبناء المنطقة. وأشجع الشباب على إقامة المشاريع الخاصة، وإيجاد دخل خاص لهم دون اللجوء إلى القطاع الحكومي أو الخاص، فللتجارة الخاصة مميزات كثيرة لا تعد ولا تحصى.
نشر هذا الحوار في العدد (23) من مجلة التكوين…