تقف الأديبة والتشكيلية والإعلامية السورية لبنى ياسين علامة بارزة ذات حضور خاص في المشهد الثقافي السوري والعربي. تجربة خصبة وعطاء رصين متواصل في مختلف المجالات. أبدعت في القصة القصيرة، وحققت منجزها الخاص على صعيد الرواية، وتركت بصمتها في فضاء الفن التشكيلي، وأكدت حضورها العميق في ميدان الإعلام وكتابة المقالة الساخرة التي تقترب من الكوميديا السوداء.
لبنى ياسين مبدعة مسكونة بهموم الوطن الذي حملت تفاصيله في قلبها ورائحته في حقائبها وهي تغادر من منفى إلى آخر حتى استقر بها المطاف في ..هولندا، لتدرك الفارق بين الأوطان العربية الغارقة في الفساد والقمع الظلامية، وبين البلدان التي يشعر الإنسان فيها بقيمته ويتنفس هواء الحرية والعدالة بغض النظر عن جنسة وطائفته وديانته ولونه. في الحورا التالي تفتح لبنى ياسين قلبها لـ(التكوين) وتتحدث بلوعة المهاجر وحنين المنفيِّ وحسرة المثقف وصدق الإنسان العادي وكبرياء الأنثى…
في قارة أخرى
ـ في ظل هذا الشتات العربي عموما، وما يمر به الإنسان السوري خصوصا: أين يا ترى أخذتك الخطى في منافيك البعيدة؟
إذا كنت تقصد المسافات، فقد أخذتني بعيداً جداً، صرت في قارة أخرى، أما إن كنت تقصد القلب والروح، فالشتات العربي لم يطل قلبي وروحي، وما زال الوطن يشتعل في قلبي، ويشعلني حباً وشوقاً، فأنت إما أن تسكن في الوطن، وإما أن تحمله في قلبك، فيكون معك حيث تكون.
ـ كيف جاء اختيار المنفى، وكيف تواجهين هذا القدر وتعيشينه وتتعايشين مع لحظاته المؤلمة؟
لم أختر المنفى، هو من اختارني، وكغيري من السوريين، أعيش قدري وأتأقلم ما استطعت، لكن لحظاته وساعاته قد تنقضي في محاولة التأقلم مع المكان، واللغة، والناس الجدد، وقد تكون ملأى بالشوق والحنين، إلا أنها ليست مؤلمة بالشكل الذي تتوقعه، إن نحينا مشاعر الحنين والشوق إلى الوطن جانباً، فالعدل في المنفى وطن. عندما أجدني متساوية في الحقوق والواجبات مع أكبر مسؤولي البلاد، وأجده مثلي تحت القانون وليس فوقه، عندما أقف أمام الموظف الحكومي، فلا يعير اهتماماً لحجابي، أو للكنتي، أولشكلي المختلف، ويقوم بواجبه بابتسامة مضيئة، ويعاملني بانسانية بالغة دون أن يطلب مني ثمناً لأداء واجبه، وعندما يتم إعلامي عن حقوقي، قبل واجباتي، فإن الألم الوحيد الذي يعتريني هو ألم المقارنة، المقارنة ببلد عربي سكنته وعوملت فيه كغريبة دائماً، ولم يكن لدي حقوق تذكر فيه، والمقارنة بوطني الأصل الذي يمكن فيه لموظف صغير أن يعرقل حياتي أياماً وأسابيع ما لم أعطه الرشوة المطلوبة.
أعيش حنيناً إلى الوطن، لكن إنسانيتي التي أمارسها هنا بكل ما أوتيت من حرمان قبل قدومي تمنحني تعويضاً مكافئاً لوطن نعيش فيه دون حقوق، ويتموضع فيه البعض فوق القانون، والآخرون تحته، من المؤكد أنه يستحيل على المرء السوي أن يشعر بالسعادة فيما يرى الظلم حوله، حتى لو لم يصبه شخصياً. بلادنا جنة، لكن الفساد الذي عاث فيها خراباً جعل الحياة فيها موتاً بطيئاً.
ـ كيف تصفين خيار الهروب من الأوطان الأصيلة إلى الأوطان البديلة؟
الاضطرار إلى ترك بيتك ووطنك أمر مؤلم، خاصة وأن الهجرة في غالبيتها لم تكن قراراً بقدر ما كانت قدراً، لكنني أصفه بقوله تعالى :”وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم”، فرغم أن الحنين يجتاحني كثيراً وجداً إلى أزقة الشام وحاراتها، ورغم المعاناة المخيفة التي نسمع بها كل يوم عن القوارب والهجرة، ورغم القصص المحزنة التي نتجت عن كم الخراب الهائل في الوطن، الذي جعل أغلب السوريين مكرهين على الهجرة، لكنني أعتقد أننا كسوريين نتعلم الكثير في المهجر، وقد عادت إلينا إنسانيتنا.
أنا هنا لا أخاف المعاكسات في الشارع، ولا التعدي على حقوقي في الوظيفة، ولا أخشى أن أظلم من ضابط أو مسؤول، ولا أحتاج واسطة لأي إجراء هو من حقي، ولا يمكن أن تتمكن واسطة من إعطائي ما هو ليس بحقي، بل أن بلدية المدينة التي أعيش بي تتصل بي لتتأكد من أنني أعلم كافة حقوقي، وأحصل عليها.
هذه الحياة لم أكن أدرك أنها موجودة حقاً على الأرض، كنت أظنها ضرباً من الخيال.
عدوى الفتنة المزمنة
ـ وما هي رؤيتك لتداعيات هذا الواقع على مستقبل وجودنا كعرب حضاريا وثقافيا؟
سؤالك هذا شائك جداً، المنطقة العربية على شفا هاوية، هناك أيد تعمل في الخفاء على تزكية الخلافات، وإشعال الفتن بين مختلف الفئات، فمن فتنة طائفية إلى أخرى قومية، إلى ثالثة إقليمية، إلى العشائرية.
المطلوب عالمياً تجزئة هذه المنطقة للحصول على “شرخ أوسع” جديد، وإغراقنا بـ”الفوضى الخلاقة”، لهدم بلداننا وإعادة بنائها بصياغة أخرى، وخلال هذه العملية تم تهديم المعالم الحضارية، وسرقة الآثار وتهريبها، واغتيال العقول المبدعة. ففي العراق وحده مع الاجتياح الأمريكي تمت تصفية حوالي خمسة آلاف من الدكاترة، وذوي الشهادات والإنجازات العلمية.
في المناطق العربية غير المستقرة نحن نعاني من عملية مقصودة لمحو الهوية، ومن تسويق الجهل بطريقة مدروسة بتغليفه بالتقديس المزيف، ومن الأمية التي فرضت على جيل كامل نتيجة الحرب والإضطرابات، لذلك أجد أنني أعول الأمل في المستقبل ليس على الجيل القادم الباقي في الأوطان، فقد تم تجهيله بكافة الطرق الممكنة، وغير الممكنة، هذا الجيل في الداخل برأيي سيصاب بعدوى مزمنة للفتن والكراهية، مهما حاول الصمود ضدها، إلا من رحم ربي، أعول على الجيل الذي ينشأ الآن في المهجر، ويتعلم كيف يتقبل الآخرين دون أحكام مسبقة، وكيف يحترم عقائد الآخرين واختلافهم في اللون، والدين، والمنشأ، والأصل، دون أن يكون في نفسه أية حرج أو تردد، ويعرف تماماً قيمة العمل والبناء، ويؤمن أنه لا أحد فوق القانون، وليست لديه أي شعور بالفوقية تجاه الأعمال اليدوية أو أعمال الخدمات كما تربيه المدرسة والجامعة والمجتمع، هذا الجيل ربما يعود يوماً، ويستلم سدة الحكم، ويصحح المسار.
العرب لا ينقصهم الذكاء، ولا الإبداع، والدليل تفوقهم هنا في أوروبا، بل تنقصهم البيئة الحاضنة لهذا الإبداع، والتي لا يمكن أن تتوفر في مجتمع يسوده الظلم، والفساد، لذلك سيكون القادم أفضل، عندما يعتلي سدة الحكم من يحترم القانون، والإنسان.
ـ ما هي الهواجس والأسئلة الكبرى لتي تشعل بالك كمبدعة؟ وهل تجدين في الكتابة ما يسكن هذه الأسئلة؟ أم أن الكتابة لديك ملاذ من جحيم الواقع ومرارته؟
أكثر هواجسي تتعلق بالوطن، وبمنطقتنا العربية، والتغييرات التي تتحرك بسرعة هائلة يصعب فهمها، في الإنسان السوري الذي تشتت في أنحاء العالم فاقداً كل شيء، وفي الظلم الذي يرزح تحت نيره في المخيمات العربية التي لم تقدم له شيئاً يذكر، إنما انبرت تشعره بأنه غير مرغوب به وكأنما هو في رحلة سياحية، في قوارب الموت، والأشخاص الذين يختفون يومياً لصالح تجارة الأعضاء، أو تجارة البشر، ولم يكن لهم من ذنب إلا أن الحرب اشتعلت في ديارهم.
في القضية السورية التي يتاجر بها جميع الأطراف، ويتدخل بأمرها كل العالم، في القدس التي سلبت على مرأى من الجميع دون أن يحركوا ساكناً ولو من باب حفظ ماء الوجه.
في الكتابة غالباً ما أطرح الأسئلة، ولا أبحث عن الإجابة، إلا أنني أؤرخها، وأصلبها على الورق، حتى تأتي الأجوبة لاحقاً إن أتت، فالكتابة الأدبية تحديداً لا تسكن الأسئلة، ولا تجيب عنها، إنها فقط تسجل تلك الأسئلة وتؤرخها، لعلها يوماً تجد الإجابة الشافية.
الكتابة تصبح ملاذاً عندما يشتعل قلبي بأوجاع الوطن، والحنين، والغربة، والتعب، والحزن، فهي تحررك من مشاعر الألم والحنين، وتبقيك منهمكاً فتمنعك من التوغل بعيداً في مشاعر الحزن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر الحوار كاملا في عدد شهر أغسطس 2018م