مقالات
“جائحة الرولة” : من حكايات الأجداد تعود من جديد
سلطان بن عبدالله الشهيمي
صوتُ السماء ظلّ يَقْرَع سمعَ الناس.. الكل في هلع وخوف.. واحمرار السماء يُؤْذِن بخَطْب جلل.. ما هي إلا سويعات حتى أذّن المنادي من مكان بعيد، ظل صوته يُتناقل عبر الواتس آب في شبكة، كتب الله لها البقاء حينها، لتصل رسالته في الآفاق، فيتلقّاها الناس بالرضا الممزوج بالخوف “أن لا مقام لساكن الوادي البتة! ألا فأبعدوا ما يمكن جرّه وأخذه بقوة؛ فقد غرقت الحاجر- الحاجر هي إحدى قرى نيابة دماء من جهة الغرب بولاية دماء والطائيين- “. انتهى المنقول في صوت يشوبه الهلع وضعف الحيلة. فكان ما كان أنْ دخل الوادي بيوت الناس، وبدأت تياراته تسوق مركبات الناس وأشياءهم حارة تلو الحارة إلى مصير مجهول، فتتقاذفها الأمواج تارة تضرب بها جدران المنازل، وتارة في صخور الوادي والجرف، فتعركها عَرْك الرحى ليستقر مصيرها بعدئذ في قعر الوادي وأخاديده التي تحكي قوة الجريان؛ بل علقت بعضها في الجسور العليا ومنحنيات الطرقات. فلله الأمر من قبل ومن بعد!
مشاهد تقشعر منها الأبدان! تعود من جديد في ذاكرة اليوم، بعد أن كانت في ذاكرة الأمس. ولكن كما قال الشاعر:
هوّن على بصرٍ ما شقّ منظرُه
فإنّما يقظاتُ العينِ كالحُلُمِ
عادةُ الناس في وادي دما، عندما يتناهى إلى سمعهم خبر “وادي الحاجر”، أحد الأودية الجارفة في وادي دماء الذي وصفه الشيخ محمد بن شامس البطاشي في رسالته الموسومة ” ضيقة أكبر وادٍ بعمان” بقوله: “وهذا الوادي من الأودية الفحول. ينحدر وادي (دما) من أعالي بلدة (الحاجر) من موضع يسمى (هاويت)، ويسانده واد آخر من جهة الشمال يسمى وادي (سويطة)”، تستدعى الذاكرة حينها فيأتي الوصف بليغا عميقا مجلجلا:” أبو الرؤوس جاي”. أبو الرؤوس يحمل معه رزق الناس وخيراتهم. كيف لا؟ ومعظم سكان وادي دما خصوصا إنْ لم يكن كلهم يعيشون تحت كنفه فهو الأم والأب بل الحياة.
وادي الحاجر وما يحمله من ذكريات عظيمة، قد خطّتْها ذاكرة الزمن في تجاعيد كبار السن، وما بقي من آثار ماثلة للعيان، تتلى في مجالس السمر والحكايا.
ومن أعظم المشاهد على الإطلاق في تاريخ أودية النيابة “جرفة الرولة”، التي امتد تأثيرها إلى ولاية قريات؛ المزارع منها خصوصا. هذه الشجرة العملاقة التي يضرب بها المثل في ضخامتها وامتداد أفروعها، حتى أنها كانت في وقتها همزة وصل بين ضفتي الوادي، تظلل السكان وتحمل أمتعتهم وأحوالهم بل همومهم. فجاءت تلك النازلة العظيمة فسالت أودية جارفة فاجتثّتها من جذورها لتلقف ما يأتي أمامها كحية تسعى، أتت على كل ما يعترض طريقها، فأحدثت ضررا جسيما في الحرث والنسل.
فما أشبه اليوم بالبارحة! تلك القصص والحكايا، التي كانت ترويها لنا الجدات ويحكيها لنا كبار السن، أصبحت واقعا ملموسا. فالأجيال التي جاءت بعدُ، لم تدرك هول تلك الفاجعة التي حصلت؛ فإذا بها اليوم تتجسد واقعا. أدرك حينها أجيال اليوم خطورة ما يعنيه نصح الأجداد :”أن لا سكنى في الوادي”. فإن جاء أبو الرؤوس، الذي تتقاطر منه أفرعه بالسيل العرم، فإنه لا يُبقي ولا يَذر. فيا سبحان الله! درس عميق من دروس الحياة، يأخذ الإنسان منها العبر.
ومن مشاهد الرولة يبينُ مسجدُها العتيق الطاهر، الذي يحكي هو الآخر حقبا غابرة وأجيالا تعاقبت وليالي انصرمت وأياما انقضت، كانت حاضرة بالإيمان تَرْفَع أكُفّ الضراعة إلى الله في السراء والضراء، وتحكي ما مر بالبلدة من بلايا ومحن. ومن أمثلتها: ذاك الوباء الذي لم يُعرف حقيقته، الذي حصد خلقا كثيرا حتى أن مقبرة سميت بـ”مقبرة السبت”؛ لكثرة من يدفن في ذاك اليوم-والله أعلم- إلى أن انجلت الغُمّة بعد أن تعالت الدعوات في هذا المسجد الشريف إلى ملكوت رب الأرض والسموات. بل إن المسجد يحمل معه البشرى؛ بشرى الأعياد والأفراح، وبشرى الغيث بعد القحط والجدب. فالكل يلْهج ويلحّ بالدعاء إلى خالق الكون ومسيّره.
أما اليوم فها هو مسجد الرولة يَخِرّ ساجدا لله تعالى، راضيا بقضاء الله تعالى وقدره، وما أجراه في الكون من سنن وآيات، يستحضر فيها مشهد رفيقته التي لازمته دهرا أعني شجرة الرولة التي سبقته إلى حتفها. ثم يأتي عليه اليوم المقدّر، فتسيل الأدوية على غير عادتها، فتأخذه معها بأمر الله في قول “كن فيكون”.
مشهد عظيم يجسد أن لا بقاء لأحد، وكل شيء هالك إلا وجه الله، له الملك وله الحمد وله الأمر يحي ويميت. فلله الأمر من قبل ومن بعد!