السياحي
“قرية الحشاة الأثرية” كسفينةٍ بُنِـــــــــــــيَتْ بالحجارة والطين والصاروج العماني
يحتضن (وادي بني هني) بولاية الرستاق بمحافظة جنوب الباطنة عددا من الآثار القديمة والتراثية كقرية الحشاة، وبرج السلم، وبيت اللمكي وبيت العمار، وحصن الشرف، كما يعد من الأودية السياحية التي تحوي بين جنباتها الكثير من الأشجار والأزهار والمياه الغيلية، وتدبّ الحياة البشرية والبرية والفطرية والطبيعة الخلابة في الوادي في لوحة بديعة وفريدة.
اطلع على معالمها / سامي بن خلفان البحري
يبعد وادي بني هني عن مركز ولاية الرستاق من دوار جامع السلطان قابوس نحو 15 كيلومترًا باتجاه الغرب في الطريق الحديث التي تم رصفه أخيرًا المؤدي لولاية عبري بمحافظة الظاهرة مرورا بصناعية الرستاق ومدخل وادي السحتن ثم قرى وادي بني غافر. كما يتم العمل حاليا على شق ورصف وإنشاء طريق وادي بني هني ـ نيابة الحوقين مرورا بالوادي وعدد من القرى على جانبيه الشرقي والغربي حيث سيساهم في نشاط الحركة السياحية والاقتصادية ويعمل على تقريب المسافات بين القرى المختلفة، ثم الوصول من نيابة الحوقين إلى وادي الحيملي وحاجر بني عمر، كذلك إلى ولاية السويق بمحافظة شمال الباطنة.
يُعتبر وادي بني هني من الأودية التي تمتاز بوفرة المياه الغيلية خصوصا في الشتاء أو عند نزول الأمطار وجريان الأودية صيفا وشتاءً؛ حيث تشكل المستنقعات والبرك المائية والظلال الوارفة إضافة للآثار المتنوعة أماكن جذب سياحي يرتادها السياح من داخل وخارج الولاية.
ويمتد الوادي لمسافة طويلة منذ انحداره من سلاسل الجبال المتاخمة لولاية عبري ثم (وادي بني غافر) بولاية الرستاق والجبال المحيطة به لعشرات الكيلومترات يمر خلالها على كثير من قرى وادي بني غافر كقرى -مري والمرجي ويقاء وسني والقبيل وخفدي والقرطي والميحة والظاهر والميدان وضبعة وظيظة وغيرها الكثير، إضافة لمستشفى وادي بني غافر، وتضاف إلى وادي بني غافر العديد من الروافد والأودية مثل: وادي يقاء ووادي مري ووادي الغريز ووادي القبيل ووادي الطيب ووادي ساي وغيرها من الأودية والشعاب.
قُرَى
بعدها يمر وادي بني هني على مجموعة من القرى والتجمعات السكانية ويقسمها إلى ضفتين شرقية وغربية، ويواصل الوادي طريقه لنيابة الحوقين شمالا ليخرج منها في فضاءات فسيحة متجها لواحات الباطنة ثم مياه بحر عمان المالحة.
ويضم الوادي أكثر من 32 فلجا من الأفلاج الغيلية والداوودية، إضافة لعدد من العيون المائية العذبة كعين عقد نزوح وعين العوينة وعين تبكر وعين عيش الشفاء وكثير من آبار المياه.
الحشاة
مزجت أيادي قدامى العمانيين الطينَ من أرضهم الطيبة المعطاة وجذوع النخلة الشماء بشيء من الماء والنار مقرونة ببراعة وخبرة وعزيمة وإصرار الإنسان العماني لينتج منذ مدة من الدهر (الصاروجَ العماني) الذي ما زال باقيا شامخا شاهدا على قوته وصلابته ومتانته لم تزعزعه السنون، تمر عليه مياه الأودية والأمطار والأفلاج كذلك الرياح وغيرها من عوامل الطبيعة عبر مئات السنين، فكان اعتمادهم عليه كبيرا في البناء والتعمير بمواصفات الهوية العمانية الموغلة في القِدم.
ورُصّت الحجارةُ – بعد أنْ طُوّعت وقُصّت – فوق بعضها البعض فشكّلت أناملُهم المبدعة نسيجاً صلباً من بناءٍ ظلّ شاهداً على براعةِ الإنسانِ العماني وتمكّنه من تكييف الطبيعة القاسية والحياة الصعبة والاستفادة من المتاح له آنذاك؛ فبنى بهندسةٍ معماريةٍ فريدةٍ القلاعَ والحصونَ والأبراجَ والمنازلَ والجوامعَ والمساجدَ، وحتى (ساقية الفلج) التي تمتد لعدة كيلومترات في طريقها المتعرج ونظامها الدقيق تحت الأرض وفوقها وبين جنبات الصخور الصماء، كذلك (الظّفر) لكي تستقيم حدود المزرعة، و(الجَلْبة) بأحجامها المتعددة وأشكالها المتنوعة بين المدرجات الزراعية الجبلية والأراضي المنبسطة، ناهيك عن (اللجل) أو خزان الماء الأرضي في المزرعة وكيف للصاروج العماني أن يحافظ على تلكم المياه الثمينة من التسرب. وتقف (البُرّادةُ) الطينية في استعمالاتها المتعددة بأسقفها المعتمدة على جذوع النخيل التي تم تطويعها لتكون غرفة أو مخزنا، وغيرها الكثير مما يحكي حقبا مشرقة من الزمن الغابر.
عدسة
عدسة (التكوين) وقفت هذه المرّة على معالِمَ تجلّت فيها قدرةُ الإنسان العماني الصانع والمهندس والباني بفكره السديد وبعد نظره الثاقب المقرون بالعزيمة والإصرار والتحلي بالصبر والمثابرة تكسوه روحُ التعاون المُؤيّد بالتخطيط والنظام وتقسيم الأدوار. فيبدأون باختيار المكان المناسب للحياة والعيش واضعين نصب أعينهم الأمن والأمان وصلابة وقوة البُنيان حتى يعيشوا في راحة واطمئنان، كذلك ما يعينهم عل الاستمرار في الحياة ومواصلة العيش لهم ولأبنائهم وأحفادهم من بعدهم. ثم يخططون ويُوزعون المهام، فيعملون كخلية نحل يقودهم العزم والطموح والإرادة الصادقة ومحبة العمل الجماعي.
يرافقنا سلطان بن سالم بن درويش الشرياني – فأهل مكة أدرى بشعابها – وسيف بن مرهون الهنائي، وندخل وادي بني هني بولاية الرستاق حتى نصل إلى (قرية الحشاة) وبين أروقتها الضيقة التي تفوح منها رائحة الماضي التليد. فتلتقط العدسة صورا فريدة بعضها من داخل القرية وأخرى صورا جوّية من عدة زوايا وارتفاعات؛ لتتكشف لنا معالم الإبداع في البناء والتعمير والهندسة المعمارية القديمة التي لا يخفى على الناظر والمتأمل لها كيف رُصّت منازلُها مع بعضها البعض في جانبين غربي وشرقي يفصلها ممر من أول القرية عند البوابة الخشبية الوحيدة حتى يصل إلى البرج العالي في الجهة الجنوبية، وتداخلتْ غرفُها فوق بعضها البعض في طابق أو طابقين أو ثلاثة مما يدل على صفاء قلوب ساكنيها ومحبتهم لبعضهم البعض وتآلف نفوسهم؛ فقد تكون غرفة في الأسفل لعائلة والغرفة في الأعلى لعائلة أخرى، وكذلك الحال في الغرف ذات اليمين وذات الشمال.
(قرية الحشاة) والتي كانت تُسمى (بلدة العين) نسبةً إلى عين تنبع في أعلى القرية في الجانب الغربي، وبعد ذلك سُميت الحشاة أو حشاة الشراينة؛ نسبة لقبيلة (الشرياني) الذين سكنوها، والحشاة تعود إلى الصخرة التي بنيت عليها القرية فهي بمثابة القلب وسط أحشاء الجسم.
موقعها الفريد والمميز في وسط الوادي وهي تعلوه في تلكم الصخرة الصلبة دفع البعض إلى تسميتها في الوقت الحاضر بـ (السفينة)؛ حيث تقف على صخرة صماء صلبة ومستطيلة من الشمال إلى الجنوب طوليا لعشرات الأمتار في وسط وادي بني هني ليمرّ الوادي أثناء نزوله وجريانه من جانبيها الشرقي والغربي بردا وسلاما وهي شامخة في الأعلى كالسفينة التي تجري في البحر كالأعلام!
وقد شهد الوادي جريانا كبيرا وغزيرا في فترات وحقب سابقة سطرها سِفْر التاريخ ومما رواه الأولون ولم تتأثر القرية ببنائها الشامخ، كما تستمر المياه الغيلية أسفل منها بعد نزول الأمطار في الصيف والشتاء. ويرى الناظر على جانبيها الشرقي والغربي مزارع النخيل الباسقات، لا سيما مما يروى عن الزراعات الأخرى في العهد القديم كالبُّر والصيف والأشجار المثمرة المتنوعة والأعلاف وغيرها الكثير.
أما البوابة الشمالية والوحيدة لقرية الحشاة فتحكي تفاصيل ليست بقليلة؛ فهي المدخل والمخرج الوحيد لها ويبدو من آثارها المتبقية أنها مرتفعة في الأعلى تتقدمها بوابتان خشبيتان كبيرتان وثقيلتان خلْف بعضهما البعض مباشرة وقد رُصّعت بالحديد والمسامير والنقوش المميزة والفريدة. هاتان البوابتان تعلوهما فتحة تجلّت في وسطهما من الأعلى وكأنها مما استُخدِم في نظام القلاع والحصون العمانية في الأغراض الدفاعية كمصبٍّ للزيت الحار أو لإطلاق الرصاص وغيره على الأعداء حتى لا يتمكنوا من الدخول للقرية إلا للمصرّح لهم.
وتقف العربة الخشبية التي تحمل المدفع بعجلتيها الدائريتين وما يكسوها من حديد أمام مدخل القرية خارج تلك البوابة الخشبية كالأسد المدافع عن الحِمى. كذلك يوجد معلم أثري في قمة الجبل الشمالي الغربي ويسمى (بيت الجبل) كإضافة أخرى للحماية والأمان وقد بُنِي هو الآخر بالحجارة والطين ولا يزال يراوح مكانه حتى اللحظة.
تفاصيل
ممرٌ ضيّقٌ ومنازلُ متراصّة وغرفٌ مفردة وأخرى فوق بعضها البعض ومخازن ومسجد ومجلس وبئر ماء في وسطها وبرجٌ شاهقٌ يسمو إلى الأعلى في الجنوب جُلُّها آلت للسقوط وعانقت بعض الأسقف بعضها البعض في وِفاقِ وانحنتْ بعضُ جذوع النخل والأخشاب الفريدة التي تم تقويمها وتطويعها منذ سنوات أمام قسوة الزمان، وظلّت كثير من جدرانها المكسوة بالطين تارة وبالصاروج العماني تارة أخرى والحجارة بها مرصّعة كحبات اللؤلؤ واقفة بشموخ، ونحن الثلاثة نسير بين تلكم الأروقة التي يفوح منها عبق الماضي ونتبادل الحديث الهادئ لنسترجع بعضا مما أدركناه وآخر مما سمعناه رواية عن آبائنا وأجدادنا وكل منا يدلي بدلوه ويعهد على نفسه أن يخلد التاريخ مع نفسه وأولاده.
ونقلب ناظرينا يمنة ويسرة فتُنْبِئنا (الرُّوزنة) بقوسها الأعلى وما شكّلتْه قاعدتُها الخشبية والعقود الدائرية في جدرانها وأعلى نوافذها بحياة وسكينة سيطرت على المكان والزمان، وندخل بعض الغرف الضيقة المظلمة التي تراوحها الشمس بأشعتها حينا ومما يبدو في بعضها أنها مجالس وأخرى مطبخ وتلك درج داخلية وأخرى خارجية وصالة مستطيلة صغيرة تنفذ لممر أو لغرفة فكأنما نسمعها تئن وحدة وغربة وتكاد أخشابها المميزة بأشكالها ونقوشها وزخارفها وألوانها أن تنادينا !
يقول سلطان الشرياني: لم يذكر أحد من كبار السّن المعمرين تأريخ بناء قرية الحشاة تحديدا فهي قديمة المنشأ ورثها الآباء من أجدادهم والأبناء من آبائهم، يزورها اليوم السياح من كل مكان للاطلاع على معالمها وآثارها والبراعة التي تميز بها الأولون في بنائها وكيفية الحياة القديمة بها ناهيك عن أماكن الجذب السياحي في وادي بني هني وقرية الحشاة وولاية الرستاق عموما. ويضيف سلطان: اليوم وبعد أن تطورت الحياة التي بدأها مولانا جلالة السلطان قابوس بن سعيد – حفظه الله – مطلع عام 1970م وكبرت البلاد وعم الرخاء والسخاء توسعت قرية الحشاة في جانبيها الشرقي والغربي على وادي بني هني وأصبحت تضم مخططات سكنية ومنازل حديثة كثيرة في طرازها ومعمارها الحديث، إضافة لسبعة مساجد وطرق معبدة وإنارة وماء وكهرباء واتصالات وخدمات تنموية ونهضة شاملة من صحة وتعليم، وتحيط بها عدة جبال أشهرها من جهة الشرق جبل الصفواني وجبل الصافح ومن جهة الغرب جبل المقرور، كما تسقي قرية الحشاة بعض الأفلاج منها فلج الحيل الذي يغذي معظم بساتين القرية، كذلك فلج الصوادر وهو فلج داووي، وآخر غيلي يسمى فلج الطوية.
أمل
وقد شهدت القرية أحداثا تاريخية واجتماعية وسياسية واقتصادية في فترات مختلفة، كما كانت حياة الناس يكسوها التعاون واللقاءات والمناسبات الاجتماعية في وئام وانسجام، يحرثون ويزرعون وعددا من الحيوانات ونحل العسل يُربّون ويستأنسون، ومن الحرفيات والفخاريات والسعفيات والصناعات التقليدية واليدوية يصنعون، وبالأدوية والأعشاب البرية والطبيعية يتداوون.
ويبقى الأمل يحدونا في ترميم (قرية الحشاة) الأثرية ونشر الحياة بين جنباتها من جديد. كما نأمل مزيدا من الاهتمام وتسليط الضوء على ذلكم التراث غير المادي، وغرس حبه والحفاظ عليه لدى النشء وتبني أفكار جديدة وسديدة حول ذلك والعمل يدا بيد في تخليد الماضي والجد والاجتهاد في الحاضر ورؤية واستشراف المستقبل المشرق. وتبقى قرية الحشاة الأثرية في وادي بني هني بولاية الرستاق بمحافظة جنوب الباطنة أحد الآثار الشاهدة على الحضارة العمانية الموغلة في القِدم، وبراعة وقدرة الإنسان العماني.