الثقافي
الدولة في الخليج إشكالية المرجعيات وعُقد التكوين
الدكتور/ بدر الشيدي
الكاتب السوري محمد الماغوط في أحد تجلياته الساخرة وفي مقالة له بعنوان الكوميديا النفطية. يحكي بأن وزيرًا من إحدى دول النفط أوفدته دولته إلى بريطانيا ليشتري منهم شكسبير، وقال في عرض تبريره لمحدثه الإنجليزي بأن بلاده غنية بما فيه الكفاية كما تعرفون، ولكن بلادنا ليس فيها إلا الرمال والجمال، لكننا في ربع قرن جعلناه متطورا يقف على أبواب الحضارة، ومع ذلك يقول الجميع إننا متخلفون ليس لدينا تراث حضاري وثقافي.وقد اشترينا من قبل غوته من ألمانيا، ودأنتي من إيطاليا، وطاغور من الهند، ولوركا من اسبانيا، وأميل مازولا من فرنسا. ولذلك قررت حكومتنا أن تحل هذه العقدة نهائيا مهما كلف الأمر.
العقدة التي يشير إليها الماغوط لم تكن أبدا كوميديا سوداء أو من نسيج مخيلته. لكن هي حقيقة واقعية، نراها اليوم بل نكاد نلمسها في نسيج الدولة بالخليج العربي . بل تزدهر وتنتعش يوما بعد يوم. لا نريد الخوض في ظروف نشأة الدولة في الخليج العربي. المخاض الذي أولد مولودًا، هل هو مشوه أو كامل النمو، ذلك ليس مجال بحثه هنا. لكن الذي نعرفه أن أغلب هذه الدول وفي طريق بحثها عن الشرعية دخلت في حالة التيه وعقدة ما يمكن تسميته بعقدة التكوين. هذه العقدة تناسلت وولدت عقدًا عديدة. تتمثل هذه العقد في الدين، عقدة التاريخ، عقدة الحجم، عقدة الموقع وكذلك عقدة الغنى والثراء وعقدة الحداثة. فدولة تجد شرعيتها في الدين كونها دولة ذات مرجعية دينية أو شرعية دينية ثيوقراطية تتميز عن الغير في ذلك. وتستمد وجودها بنصوص دينية وخطاب ديني يقترب في بعض الأحيان من ملامسة تحريم المحلل وتحليل المحرم بما يتوافق مع سياستها ونهجها وتشعر مواطنيها بأنها ما هي إلا كائن يتلقى تعاليمه من السماء وكل ما تقوم به يتسق مع الدين ونابع منه، وأي ممارسة أو معارضة لها ما هو إلا كفر بالدين والتعاليم السماوية وخروج عن الدين والملة الذي يمثله الحاكم ولي أمر واجب طاعته. التاريخ هو الآخر يتحول إلى كائن موجه لسياسات بعض الدول. فهناك دول ترسخ وجودها من خلال ما تتكئ عليه من ارث تاريخي وحضارة، وتعتقد بأن قوامها أساسه المرجعية التاريخية الذي صنعته في عصور ماضية، وتطبع جميع تصرفاتها وترجعها إلى تلك الحقبة التاريخية. ويتحول التاريخ بمرور الزمن إلى موجّه للخطاب اليومي وملبٍّ لمعتقدات تاريخية، ويصبح همها اليومي هو استدعاء وقائع واستحضار شخصيات من غياهب التاريخ لتعينها على حاضرها الذي لا تكون إلا به.
في المقابل فإن الوجه الآخر للتاريخ يشكل لبعض الدول حالة هستيرية ونقص تفكر كيف تكمله. فتلجأ هذه النوعية من الدول إلى تزوير التراث والثقافة وأسماء الأماكن والشخصيات التاريخية ونسبتها لها، تعتقد واهمة بأن هذا قد يمنحها الشرعية والدوام.
كذلك يشكل الحجم والمساحة للدول عقدة أخرى، بغض النظر عن كبر المساحة أو صغرها وما يشكله من تبعيات في أشياء كثيرة يتحول إلى هوس ويتلبسها عقدة الدور المفقود والتأثير في القيادة. تضطر معها هذه النوعية من الدول إلى البحث عن ما يكبر حجمها ولو شكليا. وتلجأ إلى لعب وتقمص أدوار والمشاركة في أحداث لا ينسجم مع حجمها، تحاول أن تخلق لنفسها موقعًا ينسجم مع تطلعاتها ولو على حساب أشياء كثيرة.
هناك أيضًا عقدة الحداثة التي تعاني منها بعض الدول إذ تعتقد بأنها الدولة الوحيدة الحديثة والمتطورة. وما البذخ والرفاهية والريعية إلا مظهر له. توهم نفسها بأنها تعيش في محيط متلاطم من التخلف والجهل، وهي الوحيدة من تعلو وتسمو بحداثتها وتطورها. وبمرور الوقت يتحول هذا إلى ممارسة وانطباع سلوكي قد يقترب في أحيان إلى ممارسات تميزية بغيظة تجاه الغير.
هناك بالطبع الكثير من المراجع والمجسات التي تطبع سياسات وممارسات الدول . لكن الخطورة تكمن مع مرور الوقت وفي وقت معين وتحت ضغوط تتحول تلك المرجعيات إلى عقد نفسية تطبع المسيرة ثم تتحول تلك العقدة إلى متخذ القرار وتتحول إلى مرجعية مشرعة وإن على شكل عرف أو قانون غير مكتوب.
ومن تلك المرجعيات التي تتحول إلى عقد ترسم السياسات العامة للدول، نذكر على سبيل المثال، عقدة الدونية والنقص، التي تشعر من خلالها بعض الدول بأنها قد لا تملك مقومات البقاء، إذ أنها ليس لديها تاريخ أو موقع جغرافي مميز أوليس لديها قبائل تنتخي لها وبها، وبالتالي تتحول هذه إلى نقص لا بدء أن يعوض. وهنا يأخذ شكل التعويض أشكالا مختلفة في مقاربة لطموحاتها.
كل ما نريد أن نقوله في هذا المجال إن هذه المرجعيات ما هي إلا وهم وخيال معشعش في ذهنراسمي السياسة، ولا يولد إلا الانكفاء على الذات والتوهم بالتميز والسمو، بينما العالم الحقيقي يتحرك بشكل متسارع مبني على مبدأ الانفتاح والاندماج وإزالة الحواجز والابتكارات والتصنيع والمشاركة الحقيقية في صناعة الحضارة الإنسانية. فالدين والتاريخ والثروة والحداثة والموقع الجغرافي والثروات الطبيعية ما هي في الحقيقة إلا عناصر ومقومات ،وتكمن العبقرية في كيف تتحول هذه النواقص التي يعتقدها البعض إلى مصدر قوة وإلهام لهذه الدول وتعظيم الاستفادة منها. على أن ينعكس ذلك على مسيرة تنميتها ورفاهية شعوبها. ذلك ما يضمن البقاء والاستمرارية. لا نريد لهذه المنطقة أن تكون عرضة للتجاذبات والاستقطابات والفتن ومن حرب إلى آخرى.
نتمنى أن تفكر هذه الدول في عناصر قوتها والبعد كل البعد عن مكامن الضعف والفرقة.