مقالات
عبد الوهاب المسيري.. رجلٌ لم ينل منه التعب
زاهر بن حارث المحروقي
يختم د. عبد الوهاب المسيري كتابه «رحلتي الفكرية – في البذور الجذور والثمر» بقصة «فنّان مدينة كوورو»، للكاتب الأمريكي هنري ديفيد ثورو، التي نشرها في كتابه «ولدن». جاء في القصة أنه كان هناك فنّان يعيش في مدينة كوورو، دائب المحاولة للوصول إلى الكمال. وذات مرة تراءى له أن يصنع عصا. وقد توصل هذا الفنّان إلى أنّ الزمان عنصرٌ مكّون للعمل الفني الذي لم يصل بعد إلى الكمال؛ أما العمل الكامل فلا يدخله الزمان أبداً. فقال لنفسه: سيكون عملي كاملاً من جميع النواحي، حتى لو استلزم الأمر ألا أفعل شيئاً آخر في حياتي. فذهب للتو إلى غابة، باحثاً عن قطعة من الخشب، لأنّ عمله الفني لا يمكن أن يُصنع من مادة غير ملائمة؛ وبينما كان يبحث عن قطعة الخشب، ويستبعد العصا تلو الأخرى، بدأ أصدقاؤه تدريجياً في التخلي عنه؛ إذ نال منهم الهرم وقضوا. أما هو، فلم يتقدّم به العمر لحظة واحدة؛ فوفاؤه لغايته وإصرارُه وتقواه السامية، أضفت عليه دون أن يعلم، شباباً أزلياً. وقد عمل بجد وإخلاص؛ وحينما وضع الفنّان اللمسةَ الأخيرة على العصا، اعترته الدهشة حين تمدّدت العصا بغتة أمام ناظريه، لتصبح أجمل الأشياء. لقد صنع نسقاً جديداً بصنعه هذه العصا. كان مرور الوقت في السابق بالنسبة له ولعمله مجرد وهم؛ فلم يمر من الوقت إلا القليل. كانت مادة عمله نقية صافية، وكان فنّه نقياً صافياً، فكيف كان يمكن للنتيجة إلا أن تكون رائعة؟!.
وإذا كان هنري ثورو، قد كتب كتابه (ولدن) عن سيرته الذاتية في الغابة، والذي انتهى منه في ٦ سبتمبر ١٨٤٧م، أي قبل 185 عامًا من صدور كتاب عبد الوهاب المسيري، «رحلتي الفكرية»؛ فأستطيع أن أقول، إنّ المسيري وجد نفسه في شخص فنّان كوورو؛ ولم يكن غريبًا أن يُنهي كتابه الكبير بتلك القصة؛ بل رأى أنه من المناسب أن يهديها لكلِّ فنّان أو مفكر تفانى في عمله، حتى نسي تمامًا الزمان والمكان والطبيعة، ليبدع عملا جميلا باقيًا وخالدًا؛ فالمسيري نفسه قضى عمره كله في سبيل تحقيق هدفه الأسمى، وهو الاهتمام بقضية اليهود واليهودية والصهيونية، حيث أصدر كتبًا كثيرة تتناول هذا الجانب، حتى توج عمله بموسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية» في ثمانية مجلدات؛ دفع الكثير خلال ربع قرن من العمل في الموسوعة، من صحته وشبابه وعلاقاته الاجتماعية؛ إلا أنه كان – مثل فنّان مدينة كوورو -، دائب المحاولة للوصول إلى الكمال، وقد ألغى من قاموسه عنصر الزمان، لأنّه حتى يكون العمل كاملا لا ينبغي أن يقيده بزمن. لذا استقال من عمله في الجامعة ليتفرغ للموسوعة، رغم قلة ذات اليد؛ وبعد انتهائه من الموسوعة، شارك في الحياة العامة؛ وفي سنته الأخيرة من حياته نزل إلى الشارع، وشارك الناس همومهم، مقاومًا الفساد والاستبداد، ناشدًا الإصلاح والتغيير، وتوّج عمله بشغله موقع المنسق العام لحركة «كفاية»، التي سعت لإسقاط حكم الرئيس حسني مبارك بالطرق السلمية، ومعارضة تولي ابنه جمال مبارك منصب رئيس الجمهورية من بعده، فيما عرف بمصطلح «التوريث»؛ معيدًا إلى الأذهان، الدور المطلوب من المثقف تجاه قضايا وطنه ومواطنيه وأمته.
وموسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية»، تشبه تمامًا العصا الجميلة التي صنعها فنّان كوورو؛ فالموسوعة تتناول كلَّ ما يتعلق بتاريخ العبرانيين في العالم القديم، وتواريخ الجماعات اليهودية بامتداد بلدان العالم، وتعداداتها وتوزيعاتها، وسماتها الأساسية، وهياكلها التنظيمية، وعلاقات أفراد الجماعات اليهودية بالمجتمعات والدول التي يوجدون فيها، بالدولة الصهيونية. وتشمل الموسوعة، كافة الأحوال الاجتماعية والسياسية وكافة الشؤون الحياتية التي صاحبتهم منذ زمن العبرانيين في العالم القديم حتى العصر الحديث، انتهاءً بدولة إسرائيل.
تعرّض المسيري لمواقف كثيرة، بسبب إصراره على إنجاز موسوعته هذه، وصلت إلى أن تقترح بعض الدوائر الإسرائيلية على الملحق الثقافي الإسرائيلي في القاهرة، أن يشوّه سمعة بعض الوطنيين الذين يرفضون السلام مع إسرائيل، ومنهم المسيري، بأنّ لهم اتصالات مع المركز الأكاديمي الإسرائيلي، وهو ما نشره المسيري في مذكراته في الصفحة 577. وكان من رأي المخطط الإسرائيلي أنّ تسريب معلومات كهذه، سوف يثير جدلا، ولكنه في الوقت نفسه سوف يثبت الشكوك حول مواقفهم، وحتى لو أفرطوا في تكذيب هذه المعلومات، فإنها بلا شك سوف تبعث كثيرًا من الثقة في نفوس المتعاونين مع إسرائيل. (وفي اعتقادي أنّ هذه النقطة بالذات تحتاج إلى وقفات أخرى كثيرة، لما لها من أهمية عظيمة في تشويه سمعة بعض الوطنيين).
في مقال لي تحت عنوان «المثقفون والسلطة في الوطن العربي»، نُشر في جريدة «الشبيبة» العمانية في 15 يوليو 2008م، بعد أيام من وفاة المسيري، الذي رحل في 3 يوليو 2008، عن سبعين عامًا؛ قلت إنّ رحيل المسيري، أعاد طرح موضوع تردّد كثيرًا على مدى السنوات الماضية، وهو علاقة المثقفين بالسلطة في الوطن العربي؛ بل إنّ حياة المسيري نفسها تطرح إشكالية هذه العلاقة للنقاش، بما اتسمت به من توتر وتجاهل لقامة عملاقة بهذا الوزن في عطائه وصحته ومرضه، وحتى في رحيله في مستشفى عام، وفي تشييعه. لقد كان للمسيري مشروع وهدف عاش لتحقيقهما، وهو كشف الصهيونية، ودَفَعَ كلّ حياته في سبيل مشروعه، الذي سيظل أحد المراجع الرئيسة في الدراسات الصهيونية، حيث ألف في هذا الجانب أكثر من كتاب، وتوج جهوده بموسوعته تلك، وقد ارتبط المسيري بالقضية الفلسطينية طوال حياته، وكان يُعدّ لموسوعة جديدة بعنوان «الصهيونية وإسرائيل»، تتناول إسرائيل من الداخل.. مجتمعًا ومؤسسات، بهدف «تعميق فهم هذا الكيان الاستيطاني، حتى تتحسّن كفاءتنا في المواجهة معه، كدولة وظيفية». ولا يمكن حصر أو تقييم المسيري بتلك الموسوعة فقط، فقد جاءت ضمن مشروع وهدف ورؤية، وضمن قضية آمن بها وعاش لها وتوفي وهو مخلصٌ لها؛ وكلّ ذلك جعل منه على رأس قائمة المكروهين والمطلوبين في الدوائر الصهيونية.
أصيب المسيري بمرض السرطان في السنوات العشر الأخيرة من حياته، ومرّت عليه أيام وهو لا يجد ثمن الدواء؛ فتقدم بطلب للحكومة المصرية لكي يتعالج على نفقتها، إلا أنه لم يتلق ردًا. وعندما سافر للعلاج في أمريكا، فإنه سافر على نفقة الأمير عبد العزيز بن فهد، بعد أن كتب حمد عبد العزيز العيسى مقالا في إحدى الصحف السعودية عن وضع المسيري الصحي والمالي.
أما كيف أنجز المسيري موسوعته؟ فإنه أنفق على ذلك من بيع شققه. وعندما انتهى من الموسوعة، كان قد باع كلَّ ما يملك، وكان في نفسه غصة أنه لا المجامع العربية ولا المؤسسات العربية العامة ولا الخاصة ولا الجامعات اقتنت تلك الموسوعة إلا بشق الأنفس، وبعد فترة طويلة من صدورها.
ظلّ المسيري، ثابتًا في إيمانه، بأنّ «نهاية إسرائيل» قريبة، وربما لن تتجاوز الخمسين عامًا المقبلة، نافيًا أن يكون لهذا التوقع علاقةٌ بالتشاؤم أو التفاؤل، لأنه يقرأ معطيات وحقائق في سياقها الموضوعي، ويستخلص ما يمكن أن تسفر عنه من نتائج. ويقول إنّ الباحثين الإسرائيليين أنفسهم لا ينكرون هذا الخوف حتى أصبحت كمية الكتابات في إسرائيل، عن نهاية اسرائيل مُملة؛ ويذكر المسيري أنه قابل في الولايات المتحدة في منتصف الستينيات يهوديّا عراقيّا هاجر إلى إسرائيل ومنها إلى أمريكا، وصارحه بأن «الاشكناز» (اليهود الغربيين) يحتفظون بعلاقاتهم بأقاربهم في العالم الغربي، حتى يمكنهم الفرار حين تسقط الدولة الصهيونية، وبعد توالي الهزائم زاد عدد من يطلبون الحصول على جوازات سفر غربية بالتزامن مع الهجرة العكسية من إسرائيل للخارج؛ وأنّ هذه كانت أول مرة يسمع فيها شخصًا يتحدّث عن سقوط الدولة الصهيونية بحسبانه أمرًا مطروحًا ومتتالية تستحق النقاش.
رحل د. عبد الوهاب المسيري عن عالمنا، ولم ينل منه التعب في كفاحه، وصمد أمام كلِّ الأعاصير التي هبت عليه، حتى أتمَّ مشروعه الفكري والحضاري؛ لذا سيبقى يحتل مكانة رفيعة في الفِكر العربي، وستبقى آثاره التي تركها، إلهامًا للأجيال المقبلة، بل ستسفيد منها الحكومات المقبلة، إذا قيّض الله لهذه الأمة حكوماتٍ وطنية مخلصة. وإذا كان قد عانى المسيري ما عاناه؛ فإنّ التاريخ سينصفه، وسيخلد اسمه ضمن الكبار؛ فيما سيُنسى كلُّ من لم يترك الأثر الطيب. كان عبد الوهاب المسيري فنانًا مخلصًا لما يؤمن به، أعطى نفسه كلها لمشروعه الفكري والوطني، ولم يلتفت إلى العقبات الكثيرة التي اعترضت طريقه؛ وكان مؤمنًا بأنه صاحب رسالة؛ لذا لم يكن مستغربًا أن ينهي مذكراته الطويلة، بقصة «فنّان كوورو»، لأنه وجد نفسه في ذلك الفنّان، وكثيرًا ما سألتُ نفسي وأنا أطوف وأتجول مع سيرة المسيري: هل هناك فعلا أناسٌ مخلصون مثله في عصرنا هذا؟!. وهل هناك أناسٌ يمكن أن يضحوا في سبيل عدالة القضية التي يؤمنون بها؟!. كان يمكن للمسيري أن يعيش في بحبوبة من العيش، دون أن يدفع ثمنًا غاليًا من صحته وماله وحياته، لو أنه ترك الاهتمام بموضوع الصهيونية، ورضي بالصمت، وآثر المنفعة الشخصية على مصالح الناس، إلا أنه اختار الأمر الأصعب بعد أن تصالح مع توجهاته، فكان له ذلك النجاح.