العام
سيكولوجية التحرش
كان المريض الجالس أمامي في العيادة، الذي لم يتجاوز السابعة والعشرين من العمر في غاية الهدوء والخجل. لم يرفع عينيه إلا لحظات معدودة. كان جسده النحيل وملابسه البسيطة توحي بأنه ضحية لأمر ما. تردد قليلا قبل أن يبدأ في شرح مشكلته. وضعت القلم والأوراق جانبا واتخذت وضعية توحي بأني كلي آذان صاغية. تحدث بعد فترة صمت ليقول: «فكرت كثيرا قبل استشارة الطبيب النفسي، فمشكلتي معقدة ولا أعتقد أن هناك من يستطيع أن يساعدني، لكن لم أجد من مخرج، خاصة بعد أن تركت زوجتي المنزل ومعها ابني الذي لم يتجاوز عامه الأول».
د. حمد بن ناصر السناوي
استشاري أول ـ الطب السلوكي
سألته أن يوضح لأتمكن من فهم طبيعة المشكلة فقال: «أشعر بميل جنسي نحو الأطفال خاصة قبيل فترة بلوغهم. أنا لا أستعمل العنف إطلاقا، لكن أوحي لهم بأني أرغب بهم جنسيا. البعض يهرب والبعض الآخر يستسلم. الشهر الماضي كنت أقود سيارتي في إحدى الحارات وقت الظهر، وجدت أحد الأطفال يقود دراجته والشارع شبه خال من المارة. اقتربت منه وسألته عن بيت أحد المقيمين في تلك الحارة تربطني به قرابة بعيدة. حاول الطفل أن يشرح لي كيف الوصول إلى البيت لكن تظاهرت بأني لا أفهم، طلبت منه أن يركب معي ليرشدني إلى المكان، تردد قليلا فأقنعته أن الامر لن يطول. ركب الى جواري وانطلقت بالسيارة. تظاهرت بأنني أعدل من وضعية الكرسي الذي كنت قد حركته مسبقا إلى الأمام بحيث يشعر الراكب بعدم وجود مسافة مريحة لقدميه، وبعد تعديل الكرسي وضعت يدي على فخذه».
يعرف علماء النفس التحرش الجنسي بأنه مجموعة من الأفعال غير المرحب بها والتي تتفاوت من الانتهاكات البسيطة مثل التلفظ بتلميحات جنسية أو إباحية، وصولا إلى الاعتداء الجنسي. ويتفق الباحثون في علم النفس والاجتماع على أن التحرش سلوك شاذ خارج عن الفطرة الإنسانية وجريمة أخلاقية تنم عن اختلال في نفسية المتحرش. وغالبا ما يكون المتحرش أكبر سنا أو ذا سلطة أو نفوذ يسيطر بها على ضحيته. ولا يقتصر القيام بالتحرش على الرجال ففي بعض الدراسات وجد أن عددا قليلا من الحالات يصدر التحرش من المرأة ويكون الرجل هو الضحية .
أما سلوك التحرش فيمكن أن يتضمن التحديق في جسد الضحية بشكل واضح أو إلقاء التلميحات والعبارات الجنسية الفاضحة التي تصف جسد الضحية وهذا السلوك تم عرضه في العديد من الأفلام والمسلسلات. وهناك أيضا النوع التحككي حيث يقوم المتحرش بالالتصاق بالضحية فى الزحام والتحكك بها حتى يصل إلى حالة النشوة الجنسية. وفي بعض الأحيان يقوم باستعراض أعضائه التناسلية أمام الضحية ويستمتع بنظرة الدهشة والاستغراب والخوف على وجه من يراه. وقد يستخدم البريد الإلكتروني أو وسائل التواصل الاجتماعي في ملاحقة الضحية وإرسال صور لأعضائه التناسلية مما يسبب مضايقات للضحية.
وقد حظي التحرش في الآونة الأخيرة باهتمام بارز من وسائل الإعلام في الدول الغربية بشكل خاص ضمن ما يعرف بحملة «أنا أيضا» التى حرص فيها ضحايا التحرش من جميع الأعمار ومن مختلف فئات المجتمع على الحديث عن معاناتهم والمطالبة بمعاقبة الجاني مهما مر من الزمن على وقوع حادثة التحرش. ورغم أن معظم الحالات التي ورد ذكرها في حملة «أنا أيضا» كان التركيز فيها على التحرش الجنسي كنوع من المساومة كي تحصل الضحية على دور في عمل سينمائي أو وظيفة في شركة أو مؤسسة. ولا يتوقف التحرش عند الحصول على الوظيفة بل يصبح مطلبا أساسيا للحصول على المزيد من الحوافز والعلاوات والترقيات .
وفي المجتمعات العربية ظل موضوع التحرش لسنوات عديدة من المواضيع المحظورة مع تحفظ من الوسائل الإعلامية في التطرق اليها، إلا إنه في الآونة الأخيرة ظهرت بعض المقالات التي ناقشت التحرش الجنسي بالأطفال وما ينتج منه من آثار نفسية وسلوكية مدمرة للضحية بسبب افتقار الأطفال والمراهقين إلى الثقافة الجنسية التى قد تساعدهم في تجنب الوقوع في شراك التحرش، وغياب الوعي عند الأهل في كيفية التعامل مع الجاني والضحية، خاصة إذا كان الجاني من أفراد الأسرة المقربين فيتم التكتم على الموضوع خوفا من العار والفضيحة أو من انهيار الأسرة إذا ما تمت محاكمة الجاني ودخوله السجن، فيؤدي هذا التكتم إلى استمرار التحرش لفترة طويلة. كما أن القوانين في بعض الدول قد تبدو أقل حزما في معاقبة الجناة حيث يعرض على الجاني أن يتزوج من الضحية في حالة وقوع الاعتداء الجنسي «للستر عليها»، مما يولد لدى الضحية شعورا دائما بالذل والمهانة والاحتقار لنفسها وللجاني .
وقد أشارت إحدى الدراسات البحثية الصادرة من الولايات المتحدة إلى أن ٦٠% من النساء في عينة البحث تعرضن للتحرش الجنسي وأن ٧٠% من هذه الحوادث حصلت في مكان العمل. وفي الدول العربية نشرت إحدى المجلات تقريرا ورد فيه أن التحرش الجنسي منتشر في المدارس بدرجات متفاوتة ويعد طلاب المرحلة الابتدائية الأكثر تعرضا للتحرش الجنسي حيث تصل النسبة إلى 23% من الأطفال من سن 6-10 سنوات في إحدى الدول، ونحو 27% من الطلاب دون سن الرابعة عشرة قد تعرضوا للانتهاك الجنسي في بلد آخر، ونحو 16% من التلاميذ دون سن 18 تعرضوا للإساءة الجنسية في بلد ثالث. وفي تقرير نشرته منظمة غوث الأطفال السويدية شمل 13 بلدا من مختلف دول العالم خلصت فيه إلى أن ما بين 13 و27% من أطفال تلك البلدان تعرضوا للإساءة الجنسية، وإن ملايين الأطفال حول العالم يخضعون للاستغلال الجنسي في إطار ما يعرف بتجارة الجنس والدعارة .
وعادة ما يسبق سلوك التحرش التحرش الجنسي سلوك آخر وهو «التنمر» أو تسلط الطلاب الأقوياء بدنيا على من هم أضعف منهم والاعتداء عليهم لفظيا أو بدنيا وقد يصدر التنمر من شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص، وعادة ما يكون الهدف الأساسي منه تحطيم الضحية نفسيا وإشعارها بالذل والهوان .
السمات الشخصية للمتحرش:
يقسم الباحثون النفسيون الاضطرابات الشخصية التي يعاني منها المتحرش إلى عدة أنواع، أهمها النوع السيكوباثي الذي لا يستمتع بالعلاقات الجنسية العادية بل يستمتع بالحصول عليها عن طريق ممارسة العنف والإجبار. كما يتسم بالتهور وانعدام التعاطف نحو الضحية لذا نجده يستمر في التحرش حتى وإن تعرض للعقوب.
أما النوع الثاني فيعرف باضطراب الشخصية النرجسية الذي يتمحور حول حب الذات واستخدام الآخرين من أجل تحقيق مصالحه وإرضاء غروره فنجده يبرر التحرش بأنه حق مطلق من حقوقه وبأن الضحية «محظوظة» لأنه يبدي اهتماما بها.
أما النوع الثالث فيعرف بالنوع الميكيافيلي ويقصد به من يتعامل بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وهو الشائع لدى معظم الحالات التي تجعل الضحية تتقبل التحرش من أجل الحصول على وظيفة أو لقاء مردود مادي، فهو على استعداد أن يفعل أي شيء في سبيل تحقيق رغباته الجنسية وإن تطلب الأمر الاعتداء على الآخرين وإلحاق الأذى بهم.
الآثار النفسية للتحرش :
تختلف الآثار النفسية على الضحية باختلاف نوع سلوك التحرش وعمر الضحية وعلاقتها بالجاني. ففي الحالات التي يتم فيها التحرش بطفل ويكون الجاني أحد أفراد الأسرة المقربين يكون التأثير عميقا وتبقى آثاره لفترة طويلة، ويكون لها أثر سلبي في قدرة الضحية على تكوين علاقات صحية بالآخرين حتى بعد تجاوز مرحلة البلوغ. ومن أهم هذه الآثار فقدان الثقة بالنفس خاصة إذا قام الجاني بالتلميح بأن الضحية «يستمتع بالتحرش» أو عندما لا يجد الضحية عونا من الآخرين عندما يخبرهم بما حصل. وقد تظهر بعض السلوكيات الجديدة لدى الضحية والتي لا تناسب سنه مثل مص الإصبع والتبول اللاإرادي. كما تكثر الأحلام المزعجة والكوابيس، ويفقد القدرة على التركيز في الدراسة مما قد يؤدي إلى تدني مستواه الدراسي. وفي بعض الأحيان يقوم بسلوكيات عنيفة قد تشمل الاعتداء الجسدي وربما الجنسي على الآخرين وهو ما يعرف بدائرة العنف حيث يتحول الضحية إلى جاني ويقوم بالتحرش بمن هم أصغر منه سنا.
ويُعد علماء النفس التحرش الجنسي بالأطفال من العوامل التي تزيد من احتمال إصابة الضحية بالعديد من الأمراض النفسية مثل القلق والاكتئاب والإدمان على الكحول والمخدرات وبعض الاضطرابات الشخصية، خاصة ما يعرف باضطراب الشخصية الحدية التي تتسم بصعوبة في تكوين علاقات مستقرة مع الآخرين وتقلب في المزاج والميل إلى إيذاء النفس إما بأحداث جروح في اليدين باستخدام الموس أو السكين أو أخذ جرعات زائدة من الأدوية، واضطرابات الغذاء مثل فقدان الشهية العصبي (الانوريكسا) والشره العصبي (البوليميا) كطريقة للتعامل من ضغوطات الحياة المختلفة .
وتشمل الآثار النفسية أيضا فقدان ثقة الضحية بجميع من حوله فتكثر الشكوك والريبة في تعامله مع الآخرين حتى عندما يتقدم به العمر. وفي الحالات التي يصل فيها التحرش إلى الاعتداء الجنسي يفقد الضحية القدرة على تكوين علاقات أسرية ناجحة.
وختاما، فإن التحرش سلوك منحرف يهدف إلى إلحاق الأذى والإهانة بالضحية، وقد يصيب مختلف الأعمار، لذا يجب أن يقوم الوالدان بنشر الثقافة الجنسية لدى الأطفال بالتعاون مع المدرسة عن طريق المعلومة المبسطة التي تبين للطفل ما يعرف بالمناطق الخاصة التي لا يجب أن يسمح للآخرين بلمسها. كما يجب أن يتم مراقبة كل من يقوم برعاية الطفل من المربية أو السائق، وتعويد الطفل على التعبير بما يحدث له، وتوفير الدعم النفسي في حالة وقوع التحرش. وبالنسبة للتحرش لدى الكبار فإن سن القوانين الجنائية قد يسهم في ردع بعض المتحرشين .