الفني
خاتم فضة.. يكشف شخصيتك
د. سميرة اليعقوبية*
لطالما اعتقدت بأن ارتداء الخاتم أمرٌ يرتبط بالأناقة وكماليات الهندام !!! فقد اعتدت على رؤيته إما في البُنصر أو الوسطى، كما جرت العادة حول طقوس الخطوبة والزواج.
ولكن أن يرتديه البعض في السُبابة أو الإبهام أو أعلى الخنصر!! وأن ترتديه بعض النساء في إحدى أصابع أقدامهن؛ لهو أمرٌ يدعو إلى الغرابة! ولربما نستنتج من هذا كله أن اختيار إصبع ما لتثبيت أحد الخواتم حوله، ماهو إلا إشارة تُفصح عن هوية الفرد.
وقد يستفزّ عقولنا تفسير سريالي عميق اسمحوا لي بشرحه والانجراف قليلا إلى عالم الخيال، فلربما هو أمر ليس مقتصراً على خيالي وحدي ولعلّ بعضكم يشاركني فيه.
إن اخترنا لقبًا آخر يصفه فلعل أنسب رمز استشفته مخيلتي هو .. مفتاح الروح.. يقرأ أغوارها دون إجراء حوار مباشر مع البشر. فتارة نرى من خلال هذا المفتاح رجلا (ذا شخصية غامضة، يستدعي فضولنا ويستحوذ على تفكيرنا حتى نجد حلاً لهذا البئر المُظلم الغامض. أو قد يكون مفتاحاً لرجل جريئ منفتح، يخيفنا العبث حول أفكاره وتدفعنا فلسفته إلى الهروب منه. أو مفتاح أسير مقيد، تتحكم في تحركاته وتصرفاته أوامر (الأقوى.. المستبد..) وقيود العادات والتقاليد.. أسير، حتى من خاتمه يستغيث. أو ربما مفتاح إمرأة حالمة تبني في مخيلتها سلالم بيت زوجيةٍ بجدارن مرمر وحدائق بابل. ولربما هو مفتاح امرأة طَموح تسعى جاهدة إلى النجاح متخطية أسوار منزل أسرتها القاسية وعتباته الباردة.
وقد يكون خاتم شيخ انتشرت لحيته الشعثاء في وجهه لتختبئ شفتاه الغليظتان بين وبرها المُجعد، كالطفل حين يدس وجهه في وشاح والدته ناشدًا الدفء. شيخنا أعمى البصر قوي البصيرة يحرص على صقل خاتمه وتنظيفه، ويتبادل الحديث مع جوهرته الثمينة القابعة في القمة؛ شامخة مسيطرة وقد ألقت بتأثيرها على هذا الشيخ وأطلقت في جسده قُوى خفية تمنعنا مخاوفنا الاقتراب منه أو حتى إلقاء التحية.
إلا أن مفتاحنا المنشود لم يُرفع عنه الستار بعد، إنه خاتم من نوع خاص، له روحانية زرقاء، نُجري حواره مع الله فلا أجمل ولا أحب لنا من هذا الحوار.. حين تتوقف عقارب الساعة وتنفصل أرواحنا عن جسدٍ جذوره الأرض للتواصل مع الخالق، إنها اللحظة التي تتحول فيها أرواحنا إلى صفحة حبرها جف تتجنب من يقرؤها سواه.. لتتساقط كلماتها الواحدة تلو الأخرى تناجيه وتسقِط أحمالها بين يديه.. همساً،، لِترتاح.
فقبل أن تضيع أفكاري في متاهة الأرواح هذه، سأنبش ذاكرة التراث وأستأذنها الحديث عن خواتم فضة تسكن صندوقا خشبيا عتيقاً، اكتشفته في إحدى زياراتي إلى بيت جدي، ذلك الصندوق أو (المندوس) قابع في زاوية البيت بين جدران تفوح رائحته بعطر الطين الأخاذ. رائحة الماضي الجميل التي تسكن ذاكرتي، كلما مر طيفه شممت رائحته وكأنني أتنفسها للمرة الأولى.
تُرى ما هو هذا الخاتم وما هو مفتاحه الروحاني؟
إنه خاتم أثري قديم، جزء من مصوغات جداتنا التراثية كُنَّ يضعنه في أصابعهن برفقة أربعة خواتم أخرى. اختار كل منها إصبعه الذي يشبهه.. انسجم وتعايش معه ولُقب باسم يصف مُهمته، نعم أسميتها مُهمة بعد أن ترسخت في ذاكرتي فكرة أن الخاتم سرالروح ومفتاحه. ولكن قبل أن أتحدث عن بطل موضوعنا (مفتاح الروح)، دعوني أصف لكم أقرانه الأربعة التي لا يشبه بعضها بعضًا لا بالهيئة ولا بالمهمة.
مفاتيحنا الأربعة أرواح تراثية ارتبطت بإرثنا العُماني. أول هذه الخواتم هو ما يسمى (بعويص فضي) كما أطلق عليه قديماً، وهو خاتم الإبهام الاسطواني الشكل أحيانا تتوسطه كرات فضية رُصَّت بعناية، في حلقة من الحبات المنتظمة في خط واحد. وأحيانا يأتي على هيئة شريحة اسطوانية أُلحق طرفها بسلك من حبات الفضة والتي تحف جوانبه وكأنها براويز تُأطر لوحة فنية. و صفٌ آخر من الحبات الفضية مثبتة في وسط الخاتم، قسمته إلى مساحتين، كل مساحة منها ازدانت بزخارف نباتية بارزة عزفها الصائغ بالطَّرْقِ على شريحة الفضة بعد أن ثُبتت على سطح معدني يُسمى بالقالب، وهو السطح المعدني الذي يحمل زخارف بارزة ما أن توضع الشريحة الفضية عليه ويطرُق عليها الصائغ بخفة ودقة؛ تنتقل بصْمة هذه الزخارف على سطحها. مشهد إيقاعي قد لا ينتهي بمقطوعة موسيقية وإنما يقدم لنا عملاَ فنياَ أثرياَ نستمتع بملامسه المتنوعة وألحانه الزخرفية الرتيبة.
إن هذا الخاتم نبش مخيلتي لاستحضار قطعة معدنية تسمى (الكشتبان) ذلك القمع الذي صُمِّم لحماية الإصبع من وخزات الإبرة عند الخياطة!! ما يدفعني إلى الاعتقاد بأنها المهمة التي أُوْكلت لخاتم (عويص فضي) قديماً.
خاتم أبو ست أو (الحيسة) كما يسمى باللهجة العُمانية وهو خاتمٌ مُخصص للوسطى تم صياغته بشريحة من الفضة، تحمل في قمتها دائرة مُجوفة فضة أيضاً، تُلقب بين مفاهيم الصاغة (البيت) الذي يُثبت فيه حجر كريم. وقد يكون من العقيق أو الفيروز، أو يكون حجرًا كريمًا يوضع بناءً على طلب من سيرتديه، ما يجعل مهمته هنا إما مهمة جمالية، أو وفق معتقداتنا القديمة، قُوى لها تأثيرٌ صحي أو عاطفي أو نفسي، أو سرٌ من الأسرار الخفية.
وخاتم البُنصر يتميز بشكله وحجمه المختلفين. وقد لُقِّب باسم (أبو سطح) لربما نسبة إلى تسطيحه! فهو يأخذ شكل المربع الذي قُسِّم إلى مساحات هندسية غير متساوية. أو يجمع سطحه الأملس زخرفة نباتية كالزهرة حُفِرت يدويا وحوْلها إطارٌ مُقسمٌ إلى مُربعات صغيرة ميزها الصائغ بمادة سوداء أعطته جمالية التعتيق.
والبُنصر حكايته حكاية.
حين نتذكر تقلده خاتماً لأحد الملوك في القصص الدينية وروايات ألف ليلة وليلة، فلعله الإصبع المسيطر كما يخالجني الشعور نحوه كلما رأيته يزدان بأحد الخواتم، خاصة لدى الرجال!!
أما الإصبع الصغير وهو الخُنصر فقد خُصص له خاتم يسمى خاتم (زار) عُرف بين أهل البادية في عُمان. وهو عبارة عن شريحة اسطوانية نحيفة تحمل زخارف بارزة. وتتوسط قمتها قبة منقوشة أشبه بقباب المساجد، وتُحيط بها كراتٌ فضية متراصة، خُيل إلي وكأنها حبات رمل تُهرول إلى الأعلى، تتصارع فيما بينها وتتنافس بهدف الوصول إلى القمة. وقد أشارت (فوستر،2000) كتابها بأنه خاتم يرتديه لطرد الياطين وحمايته من أضرارهم.
نصل إلى تصميم فني جميل، خاتمٌ من فضة يجمع بين شكلين هندسيين؛ الدائرة والمثلث. يمتلئ سطحه بزخارف عفوية حُفرت يدوياً، تنوعت ما بين الزخارف النباتية والهندسية منفردة أو قد يتوسطها حجر كريم كالفيروز. إن مفتاحنا الأخير هو خاتم (الشاهد) الذي ما أن نلفظ اسمه نحس بالقوة الروحانية التي يمتلكها، وحين نتخيّله في السبابة نرفعها تلقائيا لننطق متلفضين (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله) أليس من الغريب هذا النسج الديني الرائع ؟
مصوغات استقرت قصتها المطويَّة في صندوق قديم، لم تكن تعلم أنها توقيع لهوية عُمانية بدأت في روشة صغيرة قطعة تلو الأخرى وخاتم يليه عقد، وعقد يليه سوار من نفس الترنيمة لترتديها أيدي جداتنا مُعلنة ولادةَ موروثات أبدية تتناقلها الأجيال متباهيةً بروعة الصنعة ودقة التصميم.
_____________________________________
مراجع الصور:
Forster ,A. (2000). Disappearing Treasures Of Oman- Archway
Book (Britain).
Hawelly, R.(2000). Silver The traditional Art of Oman.Stacey
International.UK.
* دكتوراه الفلسفة في المناهج والتدريس.
رائع