الفني
«عطسة» الكويتي… ثنائيّات دراميّة في عرض تراجكوميدي
مناطق قوّة كثيرة أعجبتني في عرض «عطسة» لفرقة المسرح الكويتي، الذي توّج فائزا بجائزة أفضل عرض متكامل في الدورة الثالثة من مهرجان الدن العربي، إلى جانب جائزتي أفضل إخراج لعبدالله التركماني، وأفضل ممثل دور أوّل (عبدالعزيز النصّار)، وأفضل ممثلة دور ثان( سارة التمتامي)، وأفضل دور ثان مناصفة ( خالد الثويني).
عبدالرزاق الربيعي
من أبرز نقاط القوّة أنّ فريق العرض أعادنا إلى الأدب العالمي، والأدب الروسي تحديدا، وروائع تشيخوف الخالدة، واتّبع المنهج البريختي في الإخراج، والتغريب في شكل العرض المسرحي، وبنائه، وزاوج بين الكوميديا، والتراجيديا، من جانب، والفصحى، والعامية، من جانب آخر، فوجدنا أنفسنا، في هذا العرض إزاء عدّة ثنائيّات على عدّة مستويات، فعلى مستوى النص، اعتمد على نصّين: الأوّل مسرحي، والثاني قصصي في لعبة تقدّم مسرحا داخل مسرح، أمام جمهور من الممثلين، وممثلين من الجمهور، النص الأول مسرحي كوميدي كتبه الروسي أنطوان تشيخوف عام 1888 م عنوانه «الدب»، والثاني: نص قصصي من حوالي ألف كلمة حمل عنوان «وفاة موظف» ُنشِرَ في 2 يوليو 1883، وعلى مستوى الأداء: الرجل (سميرنوف)، والمرأة (بوبوفا)، بطلا مسرحية(الدب)، والموظف (تشرياكوف)، أو (أحدهم) كما جاء في العرض، والرجل المهم، في (موت موظف)، وما إلى ذلك من ثنائيات ظهرت خلال العرض، وعمّقته.
ومن خلال قراءتي للنص، المقدّم لمهرجان الدن العربي، أحسب أنّ فريق العمل، وضع النصين على الطاولة، «وهو نتاج ورشة عمل كما قال مخرجه الفنّان عبد الله التركماني، خلال مداخلته في الندوة التطبيقيّة التي أعقبت العرض»، وقام بتوليفهما، للخروج بنص ثالث يجعل الفكرتين الواردتين في النصين منصّة لانطلاق النص الجديد سابحا في فضاءات جمالية، محاورة لها، وسائرة في ركابها تارة، ومتقاطعة معها تارات.
ومن المفارقة أن تشيخوف وصف نصه عند الانتهاء من كتابته «الدب» بـ»التافه « في رسالة لصديق له مشيرا إلى أنه كتبه لأن يمناه مشوقة للكتابة محاولا أن يكون جدّيّا، لكن الأمر لم يأت كما رسم، فاختلطت الجدية بـ»التفاهة» كما قال، لكن ما إن عرض حتى ذاع صيته، وصار من أعمال تشيخوف الخالدة!!
ولكن ما الذي يجمع النصّين؟ هل هو تشيخوف باعتباره منتجا لهما؟ أم هناك قواسم مشتركة أخرى؟
ولو وضعنا نصا لكتاب آخر داخل المسرح، هل ستختلّ المعادلة؟ أم أن التغيير لن يؤثر؟
بالنسبة لي أرى أنّ صانعي العرض (محمد المسلم مؤلفا، وعبدالله التركماني مخرجا، ود.سامي بلال صائغا للمعالجة الدرامية) وفّقوا في ذلك، فالمناخ العام واحد، والألم الإنساني الذي امتاز به أدب تشيخوف واحد، وحسّ المفارقة متوفر في النصين، إلى جانب المزج بين الكوميديا، والتراجيديا، ففي (الدبّ) تكون (بوبوفا) في حالة حداد على زوجها، مشوب بيأس، بينما (سميرنوف) يقف خارج دائرة الحزن، ويأتي إليها منشرحا، مطالبا بدين له بذمّة زوجها، فيجعلها تشعر بالاستفزاز، هذا الاستفزاز نجد ما يماثله في (موت موظف) هناك موظف بسيط، ورجل مهم، وفيما يكون (الرجل المهم) في قمة المتعة، يعطس الموظف، ويقع رذاذ العطسة على صلعته، ويحدث إرباكا، في الصالة والخشبة، تستمر تداعياته إلى نهاية العرض، فيما يتوقف (الدب)، عند لحظة إطلاق الرصاصة، التي تقابلها العطسة في لحظة التقاء رائعة بين النصين، فالرصاصة التي أطلقها مسدس (سميرنوف) أصابت قلب (بوبوفا)، فخفق بشدة، لتنهي حالة الحداد، وفي اللحظة نفسها، تصيب العطسة الموظف البسيط (أحدهم) بمقتل وتنهي حياته بسبب الخوف من ردّة فعل (الرجل المهم) الذي يمثل السلطة العليا، والعقاب الذي يمكن أن ينزله به، في مجتمعات يغيب فيها العدل، وفي ذلك يقول د.ضياء نافع «إن تشيخوف أراد أن يقول، إن الرعب والخوف اللذين يسيطران على الإنسان البسيط والمسحوق في تلك المجتمعات الإنسانية الاستبدادية يؤدي إلى فقدان تلك الخصائص الإنسانية التي يتمتع بها الإنسان الاعتيادي، والطبيعي في المجتمعات التي يسود فيها العدل»
لقد قام المؤلف بتفكيك نص تشيخوف (موت موظف)، وتحويله من نص يغلب عليه الطابع التراجيدي إلى كوميدي، أو ما يعرف بالكوميديا السوداء، إذ ارتفعت به مساحة الفرجة، فقلبت المعادلة، وهناك قلب آخر للمعادلة هو أن الموظف (تشرفياكوف) عندما عطس في نص تشيخوف صنع من العطسة أزمة، بسبب حساسيته الفائضة، بينما في العرض ظهر الموظف ساذجا، (يظهر هذا جليا للمشاهد من خلال الفوضى التي أحدثها في الصالة، ومقاطعته الممثلين بالتعليقات، والضحك بصوت مرتفع)، لذا كان يمكن أن يمرّ الحادث، بناء على طبيعة شخصيّته التي رسمها المخرج، لكنّ المحيطين به هم الذين صنعوا من العطسة أزمة، بينما هو يرى أن كلّ إنسان معرّض للعطس، وقد كرّر هذه الجملة في العديد من الحوارات، وفي ذلك إشارة إلى النفاق الاجتماعي، كمظهر من مظاهر المجتمع الاستبدادي الذي يعيش ضمنه ذلك الموظف، وهو ما جسّدته السينوغرافيا من خلال السواد الذي غلّف المكان، ولم يكن هناك مخرج من ذلك سوى الباب المضاء الذي وضعه المخرج وسط العرض، وخرج منه الموظّف في نهايته، ليغادر الصندوق، مثلما خرج الممثّلون لتحيّة الجمهور، وجاء الديكور معبّرا، متحرّكا، تعزيزا لروح الفنتازيا، بل (شخصن) المخرج قطع الديكور (سلة مهملات، أريكة، منديل، صندوق بريد)، وجعلها شخوصا، تتكلّم، وتتحرّك، وذلك تعميقا لحس المفارقة، والكوميديا السوداء التي ظهرت بالعرض في إشارة إلى حساسيّته المفرطة، تلك الحساسيّة التي أوجدها المحيط، جعلت، على سبيل المثال، من المنديل شخصية تتحدّث إليه، ويحاورها، كونه لم يحمل منديلا معه، ولو كان معه منديل، لما جرى الذي جرى له بعد العطسة!!، ولانتفى الصراع أصلا، وقد وفّق المخرج في الاشتغال على المجاميع، والتنويع في الأداء، وكسر الجدار الرابع، ودخول الممثلين في الشخصيّات مع دخول الجمهور القاعة، وسماع أصوات مقتطعة من حوارات بوبوفا وسميرنوف، وإلغاء حالة الإيهام عند نزول الممثلين الذين برعوا في أداء أدوارهم عن الخشبة، يتقدّمهم الفنّان عبدالعزيز النصّار، الذي أدّى شخصيّة (أحدهم)، إلى جانب بقية فريق العمل مبارك الرندي الذي قام بدور الرجل المهمّ، (سارة التمتامي التي قامت بأدوار عدّة شخصيات (بوبوفا، الممثلة، الزوجة المحققة، حارس)، وقد نوّعت في الأداء، فاستحقّت جائزة أفضل ممثلة دور ثان، مثلما فعلت بقية فريق العرض الذين أدّوا شخصيّات مختلفة، كفهد الخياط ( سميرنوف، الممثل، الأريكة، حارس) وخالد الثويني ( لوكا، الممثل، المنديل) وعدنان بالعيس ( منظم، مدير الخشبة، الأريكة، حارس)، وناصر حبيب (المنظم، حارس)، وساهمت الأزياء في تعميق المشاهد، فالمجاميع في المشهد الأول ترتدي اللون الأسود، وتخفي وجوهها بأقنعة، فيما يرتدي الموظّف(أحدهم) ملابس ملوّنة، وكذلك (الرجل المهم)، ليكون التركيز أكبر كونهما يشكّلان بؤرة الحدث.
لقد نجح فريق «عطسة» في تقديم فرجة مسرحية قامت على رؤية نصية، بثّت للجمهور رسائل جمالية بلغة رشيقة، فقابلها بالتصفيق.