ورد في الأثر قول بليغ جاوز عصره إلى العصور اللاحقة، حتى وصلنا وبتنا نسترشد به ونستأنس بما جاء داخله من مضامين، والقول هو: “أشعر الشعراء أربعة: زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا غضب” وكذلك ورد قول شبيه به هو: “جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر”.
هذان القولان أو الأثران الواردان منذ الجاهلية وزمن الدولة الأموية يدلان بما لا يدع مجالا للشك بأن الشعر استحوذ على اهتمام شريحة واسعة من المجتمع وهو ما يمكن لمسه في العصر العباسي مع قدوم المتنبي حيث تم وصفه بـ”مالئ الدنيا وشاغل الناس” وطبيعي أنه لم يشغلهم إلا بالشعر.
لو دققنا النظر في قول “…إذا رغب ..إذا رهب ..إذا طرب ..إذا ركب” لوجدنا أنها تحتوي على ثلاث ملاحظات أساسية هي: أ- تقارب شعراء ولا تقارب أشعارا. ب- هؤلاء الشعراء ينتمون إلى بيئات مختلفة تتضمنها الجزيرة العربية. ج- أنها تتحدث عن العاطفة أكثر من أي شيء آخر.
حين تُطلق مقولة مختصة بشخص فهي غالباً لا تجاوزه وتظل منحصرة به إلا إذا دعا داعٍ إلى تعميمها وهو ما حصل فعلا حيث هؤلاء تحولوا إلى رموز أيقونية يتمثلهم الشعراء اللاحقون، كما أن انتماءهم إلى بيئة الجزيرة العربية عززت من مكانتهم الثقافية باعتبار موطنهم أرض الشعر والإبداع ولهذا تم اختراع “وادي عبقر” في المخيلة العربية.
أما العاطفة فهي عنصر أساس من عناصر القول الشعري، وقد أكد عليه النقاد منذ القديم ولا زالوا، والشعر الذي يخلو من العاطفة سيكون باردا جافا غير مقبول إلا لدى طوائف المتعلمين كما هو حال المنظومات والأراجيز في التاريخ والفقه واللغة والنحو، مثلما هي “ألفية ابن مالك” التي لا تحمل من الشعر إلا اسمه.
الرمزية والقيمة التي يحملها الشعراء سوف تنسحب على البقية باعتبارهم أصبحوا رموزاً وأيقونات بداخل الذاكرة الثقافية، وهو ما يستدعي سؤالاً هاما على المستوى الوجودي، فكيف تمكن هؤلاء من التحول إلى رموز، والصيرورة إلى أيقونات، هكذا بين العرب؟
القول الوارد عن الفرزدق وجرير يبين المقصود ويجيب على التساؤل، حيث تم التركيز على الطريقة أو الأسلوب، فجرير يجد المعاني أمامه، يستلهم منها ما يشاء، لا يردعه أحد عن تناول معنى، وإن كان مخالفا للذوق “الهجاء المقذع”، ومجافيا للطبيعة العربية، أما الفرزدق فيتخير ألفاظه ومعانيه، ويختار منها ما ناسب غرضه، وأوصله إلى هدفه.
تمكن جرير والفرزدق من التحول إلى أيقونات شعرية (في فن الهجاء خصوصا)؛ بسبب الاستمرار وعدم التوقف، فلا تكاد تمر مناسبة، أو مدة من الزمان إلا وأنتج أحدهما قصيدة، ثم رد الآخر عليها بقصيدة معارضة لها ومفندة لما ورد بين أبياتها، فالاستمرار هو الأصل، وهو ما نجده لدى عنترة والنابغة وزهير والأعشى.
لا يفسر الاستمرار في قول الشعر كل شيء، بل لا بد وأن يضاف إليه القدرة على استخراج المعاني، وتدقيق النظر في الأشياء، للخروج بأفكار وتشبيهات لم يسبق إليها أحد، وهنا ينطرح سؤال آخر، حول كيفية الوصول إلى هذه المعاني، هذا السؤال أجاب عليه “تشومسكي” من خلال طرحه لفكرتي القدرة والكفاءة اللغويتين.
القدرة والكفاءة اللغويتان تشيران إلى امتلاك الإنسان لألفاظ اللغة وأنه قادر على توظيفها ضمن حاجاته التي يرغب فيها، إذا أراد التعبير عن أمر، أو السؤال عن شيء، أو الإخبار بحدث، فهذه جميعها تدخل ضمن القدرة والكفاءة، وهو ما ينسحب كذلك على الشعر.
ترافقت فكرتي القدرة والكفاءة لدى “تشومسكي” بنظرية (النحو التوليدي) الذي عمل على بيان كيفية الاستفادة من اللغة عبر رصف الكلمات في عبارات بجوار بعضها البعض وأن كل كلمة تستدعي الكلمة الأخرى إلى أن تتشكل الجمل ويكتمل المعنى، وهذه النظرية لها شبيه في تاريخنا وهو نظرية (النظم) لعبد القاهر الجرجاني.
نظريتا “النحو التوليدي” و “النظم” يصلان بالشاعر إلى هدفه الذي يرغب، فهما يفتحان السبيل أمامه لتوليد المعاني دون توقف أو تلكؤ، فكأنه يغرف من بحر كما فعل جرير، ربما الفارق الوحيد بين عمل اللغوي وصنيع الشاعر يتمثل في أن الشاعر يزاوج بين المعاني المتباعدة والمتعاكسة كي ينتج قصيدته أما اللغوي فهو يبحث عن الحقيقة دوما، والحقيقة في الشعر نسبية.