كتاب “سُبل النعيم، الميثولوجيا والتحوُّل الشخصي” للمؤلف الأمريكي وعالم الميثولوجيا جوزيف كامبيل، تحرير وتصدير دايفيد كُدلر، وترجمة نور الحريري، صدر هذا العام 2020، عن دار نينوى السورية، ويقع في 212 صفحة.
وقبل الحديث عن الكتاب نتعرف في البدءِ على المؤلف جوزيف كامبيل. ولد جوزيف كامبيل منذ قرن ونيّف في يوم السادس والعشرين من مارس 1904 في مدينة وايت پلينز بنيويورك لزوجين كاثوليكيين من الطبقة الوسطى، هما تشارلز وجوزفين كامبيل. عُرف باسم جو في طفولته التي كانت غير ملفتة للاهتمام ما عدا حبه لعروض البقر المتوحشة. أثّرت كتابات الفيلسوف آرثر شوبنهاور فيه بصورةٍ كبيرةٍ. افتتن جو بثقافة السكان الأمريكيين الأصليين، وقد تشكلّت رؤيته للعالم من خلال التطور الديناميكي بين هذين المنظورين الأسطوريين، كانت تثير شغفه الطقوس والرموز والتقاليد الغنية لتراثه الكاثوليكي الإيرلندي، كما أنه كان مهووسًا بتجربة الشعوب البدائية أو البدئية كما يحب أن يطلق عليها هو. أصيب جو بمرض تنفسي وهو في عمر الثالثة عشر، والغريب أنه توفي بسبب مرض سرطان المرئ وهو في عمر الثالثة والثمانين.
في عام 1921 تخرّج جوزيف كامبيل من كلية كانتربري، ثم انتقل إلى كلية دارتموث ودرس علم الأحياء والرياضيات، إلا أنه أصيب بخيبة الأمل؛ بسبب غياب الصرامة الأكاديمية، فضّل بعدها دراسة العلوم الإنسانية في جامعة كولومبيا حيث حصل على شهادة البكالوريوس في الأدب الإنكليزي عام 1925، ثم حصل على الماجستير في أدب العصور الوسطى العام 1927، وكان له نشاطٌ رياضيٌ أثناء دراسته في كلية دارتموث، كما عزف الجاز وأصبح نجمًا. سافر إلى أوروبا مع عائلته في 1924 والتقى على متن السفينة بالكاتب والفيلسوف الهندي جدو كريشنا مورتي (مهتم بالقضايا الفلسفية والنفسية، وطبيعة العقل، والتأمل، والعلاقات البشرية)، وتناقشا طويلاً حول الفلسفة الآسيوية، مما أثار اهتمام كامبيل بالديانة الهندوسية والفكر الهندي، وأثر ذلك في ابتعاده عن الكاثوليكية. مُنِح بعدها زمالة بروادفيد من أجل متابعة دراساته في جامعة باريس 1927 – 1928، ثم تلّقى عرضًا للتدريس في مدرسته الثانوية الأم، جددت زمالته، وسافر إلى ألمانيا للدراسة في جامعة ميونخ (1928 – 1929م). في ألمانيا التقى كامبيل بالفنانين والأساتذة الحداثيين أمثال: أنطوان بروديل، بيكاسو، بول كلي، جميس جويس، تومان مان، والرائعان سيغموند فرويد وكارل يونغ الذين أثروا في عمل وحياة كامبيل. يقول كامبيل: “أن جميع الأساطير هي نتاجات إبداعية للنفس البشرية، وأن الفنانين هم صنّاع الأساطير الثقافية، وأن الميثولوجيا هي تجليَّات إبداعية لحاجات بشرية عالمية لتفسير الحقائق النفسية والاجتماعية والكونية والروحية”.
في عام 1938 تزوج كامبيل من إحدى طالباته جان إردمان، التي أصبحت ذات شأنٍ كبيرٍ في مجال الرقص، كراقصةٍ في فرقة مارثا غرام ثم مصممة وراقصة في شركتها الخاصة، يقول عنها كامبيل: “كانت زوجتي تعمل مع مارثا غراهام التي هي راقصة أيضا، تبلغ من العمر تسعين عامًا الآن، لكنها لا تزال مستمرة، لا تزال فنانة. حلّت الكارثة في حياة مارثا حين لم يعد فنها ممكنًا؛ لأن جسدها هو أدائها. لما لم يعد في استطاعتها الرقص، أصيبت بأزمة نفسية مروعة، كانت فكرة جين حول الرقص أنه يشّكلُ جزءًا من حياتها. لما أصبح الرقص مستحيلًا لأن جسدها لم يعد قادرًا على ذلك، تمكنت من التعامل مع الأمر، فالأمر كان يدور حول حياتها لا فنها..، فلنقل إن الأساطير ساعدت قليلًا، كان لديها زوجٌ مستعدٌ لمساعدتها في تحقيق ذلك”.
ترجمت كتب كامبيل إلى العربية نذكر منها: “البطل بألف وجه، منشورات تكوين، ترجمة محمد جمال”، و”أساطير نحيا بها، دار فواصل، ترجمة أحمد م. أحمد”، وكتابنا هذا، كما ألف وكتب العديد من المقالات، وألقى الكثير الكثير من المحاضرات، توفي جوزيف كامبيل في 30 أكتوبر 1987 في منزله بهونولو، هاواي، بعد أن عانى من مضاعفات السرطان.
وقد تأسست مؤسسة جوزيف كامبيل في عام 1991، والتي تهدف إلى الحفاظ على أعمال جوزيف كامبيل واستدامتها، أخذت على عاتقها أرشفة أوراقه وتسجيلاته رقميَا، ونفدت طبعاتها التي نشرت تحت عنوان: الأعمال المجمَّعة لجوزيف كامبيل”.
في هذا الكتاب الذي يضم بين دفتيه أربعة أقسام وسبعة فصول يطرح كامبيل عدة أفكار فهو يشعر “أن الأسطورة تقدم إطارا للنمو والتحوُّل الشخصيين، وأن فهم الطرائق التي تؤثر من خلالها الأساطير والرموز على العقل الفردي يهيئ طريقة لعيش الفرد حياة تتوافق مع طبيعته سبيلاَ إلى النعيم”. وفي التصدير الذي قدمه محرر الكتاب دايفيد كُدلر قال: “أن هذا الكتاب مستخلص من اثني عشرة محاضرة ومقابلة وندوة ألقاها كامبيل بين عامي 1962 و1983م”، وأنه انتقى هذه المحاضرات حتى يقتفي فكرة كامبيل لفكرة الميثولوجيا، وتقديم فكرة عامة تاريخية لأفكاره. وفي استهلال الكتاب تحدث كامبيل مطولاً عن مفهوم أتباع النعيم.
ويمكن أن نسجل ملاحظتين، نناقش من خلالها الكتاب:
أولاً: أن كامبيل في هذا الكتاب لا يتناول أساطير الشرق إلا نادرًا؛ كونه غير ملمٍ بهذه الأساطير، وغير متعمقٍ فيها، واعتماده كثيرًا على فلاسفة الهند. حتى عندما تحدث عن ولادة الشرق والغرب، الثقافات العليا في القسم الأول الذي تناول الإنسان والأسطورة، وعن الإناء: الشرق والغرب في القسم الثاني من الكتاب التي تناول الأسطورة الحيّة، ظهرت سطحيته في تناول هذه الميثولوجيا الخاصة بالشرق. ففي الأول صوّر الشرق على أنهم شعوب سامية رعوية، برزت آلهتها الذكورية.
أيضا في تقسيم تاريخ الجنس البشري، يقسمّها كامبيل إلى:
فترة بدائية، من فجر التاريخ حتى تطور الكتابة، ويقول: “حتى اليوم توجد في بعض أنحاء العالم مجتمعات أميّة حتى يومنا هذا”.
الفترة الوسطى العظمى في زهاء الألفية الثالثة والنصف قبل الميلاد.
الفترة الحديثة تبدأ في عصر النهضة في أوروبا.
في هذا التقسيم يتجاهل كامبيل الشرق في الفترة الأولى، ويصورها في الفترة الثانية فقط ظهور المدن فجأة، واختراع الكتابة والرياضيات والملكية والولايات، وأنها انتقلت إلى مصر ثم جزيرة كريت والهند ثم الصين وأمريكا..
على أية حال اختلفنا أم اتفقنا مع ذلك، تظل الحقيقة التاريخية نسبية، ومسألة تقسيم تاريخ الجنس البشري متعلقة لما يراه الباحث من وجهة نظره هو، وإلا فأن هناك آراء عديدة حول تقسيم الحقبة الزمنية (التاريخ).
ثانيا: تأثر كامبيل بالمنهج النفسي في تفسير الميثولوجيا، وهذا غير مستغرب كونه كان متأثرًا بسيغموند فرويد وكارل يونغ، يقول في صفحة 176: ” قد تبدو الأساطير كأنها تعمل على مستوى آخر تمامًا”، ويضرب هنا مثلاً على فكرة التضاد حسب سيكولوجية يونغ، حيث تفيد فكرته “أنه لا ينبغي للمرء أن يتطابق مع الآخر لتمثل الآخر وإدراك أن ما يمثله الآخر هو جانب آخر منه”، “.. فالتنين والبطل ضدان، لكن ليس إلا حين يتذوق البطل دم التنين ويدمج شخصية التنين في شخصيته. كما يظهر تفسير النفسي في النماذج الأصلية للاوعي الجمعي..
كذلك في طقوس العبور (الختان مثالاً) يقول كامبيل مفسرًا هذا الطقس: “حينما ينتهي الأمر، لا يعود الفتى ما كان عليه قبل الطقوس. لقد حدث الكثير. لقد تغير جسده، تغيرت حالته النفسيَّة، ومن ثم يعاد إلى الفتيات”. وقد يكون هذا التفسير النفسي متأخرًا عند الإنسان بعد انفصاله عن الثيمة الأولى للمعتقد. وفي نظري لا يمكن تطبيقه على كل حالات هذا الطقس في ضوء تشظيها.
أخيرًا يمكن القول أن فكرة كامبيل عن الميثولوجيا وكيفية إسهامها في التحول الشخصي تكمن بوصفها أداه للنمو النفسي، وهي ما أسماها الوظيفة النفسيَّة من وظائف الميثولوجيا.