الثقافي

الدكتور عادل العبدالجادر: الرقابة تشكل قيدا على الكاتب والناشر والموزع

 

حوار: التكوين

يفكر بهدوء عميق ويعمل في صمت الواثقين. له رؤية ثاقبة للأشياء والأحداث، ويطلق أفكاره برَويِّة العارفين وحنكة المجربين. هو مثقف من الطراز الرفيع، يتميز باتساع أفقه وسعة اطلاعه في مختلف مجالات المعرفة، لاسيما التاريخ والدين والفلسفة والأدب والإعلام. متابع لمجريات الأحداث ومتغيرات الساحة سياسيا ومعرفيا، ويقف من ذلك موقف المحلل الناقد الذي يرسم رؤيته الخاصة ومن زاويته هو فقط. 

إنه الدكتور عادل سالم العبدالجادر،  رئيس تحرير مجلة العربي الكويتية، الذي يقود هذه المؤسسة الإعلامية والثقافية منذ عام 2014م إلى الآن. وهو حائز على جائزة الدولة التشجيعية للجهود الإبداعية الرفيعة للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية والإنسانية لعام 2002م، وحاصل على دكتوراه الفلسفة في الفكر والفرق الإسلامية من جامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة.

(التكوين) التقت الدكتور عادل العبدالجادر في هذا الحوار الذي تناول العديد من القضايا في الفكر والإعلام والشأن الخليجي والعربي عامة.

هجرة القارئ

* تشكو الصحافة الورقية والكتاب الورقي اليوم من “هجرة” القارئ إلى فضاءات الإنترنت، فهل ينطبق ذلك على “العربي”؟ وما هي خطتكم لمواجهة هذا الواقع؟

** في ظل المتغيرات السياسية والاقتصادية الحالية في الوطن العربي، سادت ثقافة “الإنترنت” وطغت على ثقافة المُعَلّم والكتاب، فلم يَعُد للبحث العلمي والأدبي متابعا سوى متخصص رام الاستزادة أو مثقف أراد الاستفادة. وفي الوقت الذي توفرت فيه كل وسائل البحث والاطلاع بسهولة ويسر، قلّ فيه حُسن اختيار المفيد أو انتقاء الأفضل. ولعل هذا الزخم المعرفي الذي طغى على شاشات الحواسيب وانتشر عبر الهواتف الذكية، ليس سوى وجبات سريعة، تُسْكن جوع العقل ولكنها لا تغنيه أو تُشبع تفكيره. إنّ التطور السريع في وسائل التواصل الاجتماعي قد أوجد التزاحم في تناول المعرفة، فغدى الغثّ أكثر من السمين، وجعل التنوير عُرضة للتزوير. لن نندب الحال، أو نبكي على الأطلال، فلا تزال هناك بارقة أمل، إن عزمنا على الجدّ في العمل.

ومن أجل التعاطي مع هذا الواقع ومواكبة التحول الهائل فقد سعينا في العربي إلى التحول الرقمي فقد بات الآن بميسور القارئ تصفح مجلة العربي إلكترونيا على شاشات الهواتف الذكية أو الحواسيب المختلفة، وهذه إحدى الوسائل التي نحاول من خلالها ردم الهوة السحيقة بين الأجيال الجديدة وبين القراءة.

* بات تراجع المجلات الثقافية في الوطن العربي ظاهرة تؤرق المعنيين بالتنمية المعرفية. ما هي أهم هذه الأسباب برأيك؟

** المعاناة التي تعانيها المجلات الثقافية لا تختص بالعالم العربي وحده، بل تشمل جميع المجلات الثقافية في العالم، حين انشغل المثقف بمواكبة الأحداث العالمية السريعة والكثيفة، من خلال توفر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، التي شغلت جزءا كبيرا من حياة ووقت الإنسان في كل مكان، فغدت المجلة، أي مجلة، وبكل محتوياتها، بالنسبة له إرشيفا متقادما من المعلومات والأفكار. السبب الذي يجعل المجلة الثقافية تعتمد في إصدارها على الجديد والمفيد في الفنون والآداب والعلوم والتربية والثقافة العامة.

وفي عالمنا العربي، نرى التركيز على استكتاب أقلام الكتاب المشهورين والمعروفين، عوضا عن تشجيع الأقلام الشابة المُبدعة. ونعزو أسباب تراجع المجلات الثقافية في العالم العربي إلى عدة أسباب أهما. أولا: الرقابة على المطبوعات سواء الرقابة الدينة أو والسياسة. فالحرية ليست الفوضى، واحترام القانون أصل في ثقافة الإنسان واستمرار الدول في مسيرتها الحضارية، وعلى ذلك فإنّ الالتزام ليس قيدا، بل حصنا ضد العبث والتعدي على حريات الآخرين وحقوق المجتمع. إلا أن الرقيب في أحيان كثيرة يقوم بمنع كتب ومطبوعات لا علاقة لها بما ذكرناه سلفا، من باب درء الشبهات وإيثار السلامة، ليصبح المسموح به والمتداول خطابا فئويا يرفض الرأي الآخر. أما في السياسة، فحدث ولا حرج، ولأنّ الرقيب ليس من متخذي القرار، فإنه ينزع إلى المنع أكثر من الإفساح، خشية المحاسبة من مَن هم أعلى منه رتبة. وهكذا، تشكل الرقابة قيدا على الكاتب والناشر والموزع، السبب الذي تتراجع لأجله كمية النسخ المطبوعة إذا ما قارناها بدول أكثر تقدما وأكثر استقرارا.

أما السبب الآخر فيتمثل في تأثير عامل التقدم التكنولوجي في استخدام الأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ أصبح الأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي منافسا قويا للمجلات الورقية، وذلك لسرعة نشر المعلومات واستقبالها بسهولة ويسر، دون أي تحقيق علمي أو تدقيق لغوي، أو حتى مصداقية في نقل المعلومة.

وثمة سبب آخر يتمثل في التكلفة المالية الباهضة في إصدار المجلة الورقية، فإذا استثنينا رواتب المحررين وفريق عمل الطباعة والإخراج والإنتاج الفني، تبقى مكافآت الكُتّاب تُشكّل مصدر معاناة لدى القائمين على أي مجلة. وتعتبر أسعار الورق عالي الجودة مصدر قلق آخر، حيث أن أسعار الورق ما فتئت بازدياد كبير، هذا بالإضافة إلى مصاريف الشحن والنقل والتوزيع.

ولعلنا هنا نضيف سببا آخر يتمثل في ضعف شركات التوزيع في العالم العربي، إذ لا يصل مقدار طباعة أي مجلة عربية، باستثناء مجلة العربي، إلى مائة ألف نسخة. وعلى الرغم من ذلك نرى ضعفا في التوزيع، يكاد يكون عائقا في نشر الثقافة والفنون والآداب على مستوى العالم العربي. ولو ألقينا نظرة سريعة على جدول مقارنة الأسعار الذي يعتمده اتحاد الموزعين العرب، سنرى عجبا.

لا يزال الموزع العربي يعمل بأسلوب بدائي يعتمد على نظام “دكاكين الكتب والمجلات”، وقد فتحت معارض الكتب العربية له أبوابها دعما وإسنادا، إلا إننا نرى الكثير من الموزعين لا يرى في تلك المعارض سوى منفذا للبيع، يزداد منه ربحا وفائدة. ولا ضير في ذلك، وإنما كان الأمل أن يعمل على الأقل بوضع كتيب يحوي سير المؤلفين وملخصات موجزة عن كتبهم المعروضة، وهذا لا نراه إلا قليلا.

تحولات درامية

* هذه التحولات والمتغيرات الهائلة والدرامية، كيف ترون تأثيها على المشهد الإعلامي العربي عموما وعلى الخليجي بوجه خاص؟

** لا شك أنّ المتغيرات العديدة التي تمر بها المنطقة العربية باتت طرفا مؤثرا في الخطاب الإعلامي في كل بلد عربي، على حدة، وفقا لمدى تأثره بهذه التغيرات، بالإضافة إلى المتغيرات التي لحقت بوسائل الإعلام العربي ذاتها، خصوصا بعد الانتشار الواسع لوسائط التواصل الاجتماعي كرافد جديد من روافد الإعلام في العالم. ولعل التحديات التي تواجه وسائل الإعلام العربية اليوم، لا تتعلق فقط بما يواجه المنطقة من تحديات فرضتها التغييرات الكبيرة التي تشهدها المنطقة، منذ أن هبت رياح ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، وما صاحبه من أحداث عنف  وتعقيدات سياسية وصراعات أهلية وإقليمية في عدد من دول المنطقة، بل تتجاوز ذلك إلى ظواهر ترتبط بوسائل الإعلام نفسها.

فقبل انتشار الفضائيات كان الخطاب الإعلامي في أي دولة عربية يخضع لرؤية سياسية واضحة، يتم صوغها وفقا للمصالح العامة للدولة وعلاقاتها السياسية بدول الجوار والإقليم، بشكل واضح ولا يحتمل أي تناقض أو إفراط في التأويل. وكان من السهل أيضا اتفاق الدول ذات المصالح المشتركة على صوغ خطاب إعلامي متجانس، يؤكد دعم هذه المصالح المشتركة، من دون تعقيدات كبيرة.

أما بعد الانفجار الفضائي الذي انبثقت بسببه، مئات القنوات الفضائية، فقد أصيب المناخ الإعلامي العربي كله بنوع من التشتت، وعدم التركيز، بل وربما بالتشرذم، واختلطت الرسائل الإعلامية السياسية بمصالح أصحاب رأس المال، وبأهواء أهل الطائفة أو الدين، مما أدى إلى تشوش الرسالة الإعلامية بشكل عام.

والحقيقة أن ما ينطبق على الإعلام العربي يجسد الإعلام الخليجي جزءا من صورته الكبيرة، الذي لا شك أنه بدوره يتأثر بالعوامل والظروف نفسها، وبالتالي ينسحب على مضمون ومحتوى الخطاب الإعلامي في منطقة الخليج العربي.

* إذن يتضح اليوم أن هناك مأزقا عربيا خانقا يربك هذا المشهد الذي يمر بما يشبه النفق المظلم الذي لا تلوح له نهاية في الأفق. فهل ثمة رؤية واضحة لدى الإعلام العربي للخروج من هذا التيه؟

** بات اليوم واضحا عدم وجود خارطة طريق واضحة تجتمع حولها وسائل الإعلام العربي عامة، والخليجية منها بشكل خاص، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة بالتنقل بين عدد من المحطات الرسمية أو الخاصة، التابعة لأي دولة من دول الخليج العربي، حيث نرى اختلافا في درجة الحماس في التناول، أو في المساحة الزمنية المخصصة لمتابعة هذه القضية أو تلك. أو حتى في موضع ترتيب الخبر وفق أهميته في قناة لأخرى. وربما نرى أحيانا درجة من التباين في تناول خبر أو حدث سياسي بين قناة رسمية وأخرى غير رسمية لدولة من الدول. وهو ما يجعل من الغرض الرئيس بتكوين رأي عام حول هذه القضية أو تلك أمرا قد لا يقود بالضرورة لتبني وجهة النظر التي تقتضيها المصلحة العامة. والشواهد كثيرة حتى في الفترات الزمنية التي شكلت مساحة الاهتمام الإعلامي بقضايا دول عربية معينة مقارنة بأخرى تمر بنفس الظروف، وعلى سبيل المثال حجم الاهتمام بالشأن السوري مقارنة بالاهتمام بتطور الأحداث السياسية وظروف تعقيدات الوضع الداخلي في كل من ليبيا والعراق. أو حتى عند معالجة الشأن الإيراني الذي يمثل اليوم أهمية كبيرة في تحليل وفهم الكثير من المتغيرات الإقليمية.

إدارة الخطاب

* لا شك أن ثمة أزمة عميقة وحادة يمر بها الإعلام العربي، ولكن ما هي ملامح الخروج أو أهم متطلبات المرحلة برأيكم؟

** لعل الأزمة هنا تتعلق بالكيفية التي يمكن بها إدارة الخطاب الإعلامي في المراحل الدقيقة من تاريخ أي مجتمع في مثل هذا الوضع الإعلامي العالمي الملتبس والمتشظي، ومحاولة تحميل الخطاب الإعلامي بالرسائل الواجب وصولها ليس محليا فقط بل وعلى المستوى الخارجي، خصوصا مثلا في حالة معالجة قضية مثل قضية الإرهاب التي تعد اليوم القضية الأولى بين اهتمامات دول التعاون الخليجي، ولعلها أيضا القضية الأولى التي توجه سياسات عدد كبير من الدول العربية، إضافة إلى الديمقراطيات الغربية في الدول الكبرى وغيرها من دول العالم. فكيف يمكن أن نتبنى خطابا إعلاميا يدين الإرهاب، ويشير إلى مثالب التطرف والتعصب، ويكشف رجعية الأفكار التي لا تراعي المعاصرة والحداثة، ويبحث الأسباب الحقيقية لتفشي هذه الظاهرة على هذا النحو، وفي الوقت نفسه يكشف أن العداء الحادث للإسلام في العالم اليوم، نتيجة مواقف خاطئة في فهم الخطاب الديني، سواء من قبل الجماعات المتشددة، أو من الثقافات الغربية التي لا تعرف الكثير عن القيم الإيجابية للدين الإسلامي وتعاليمه السمحة، بوصفها قيما عالمية تشترك الإنسانية في تقديسها وإن تباينت أفهام الناس حولها مثال: الحرية، المحبة، المساواة، والتسامح.

* أخيرا .. وددنا معرفة رؤية الدكتور عادال العبدالجار إذا كان يرى أن ثمة خارطة طريق أو ملامح استراتيجية معينة ربما تكون مخرجا آمنا متاحا أمام إعلامنا؟

** إذا كان علاج أي أزمة أو إشكالية يرتبط بالقدرة على تشخيصها أولا، فلا شك أنه من الضروري التفات الجهات الإعلامية المختصة للعمل على رسم ملامح استراتيجيات إعلامية مشتركة جديدة، تواجه التحديات، وتضع معايير إعلامية جديدة، توفر لها الإمكانات، التي يأتي على رأسها تحديث المنظومات الإعلامية الخليجية بحيث يتوفر لها التجانس، على مستوى دول الخليج، خاصة على مستوى الإدارة الاستراتيجية أو من جهة تدريب الكوادر الفنية وتحديث وسائل صناعة المحتوى.

الأمر الأكثر إلحاحا اليوم يتمثل في إعادة النظر في الخطابات الإعلامية الخليجية المختلفة، أو بالأحرى إعادة تأملها وفحصها، في تناولها للقضايا المختلفة التي تؤثر على المنطقة. كما يجب أن يتولى باحثون متخصصون في الإعلام فحص الخطاب الإعلامي الخليجي في تناوله للقضايا ذات الاهتمام المشترك، والتأثير المشترك، ووضعها موضع التفكير وإعادة النظر، فإما أن يعاد النظر فيها، أو ترسيخها والإضافة عليها وفقا لنتائج الدراسات. لكن الواجب علينا أن نتذكر أن الدور المهم في مستقبل هذا الخطاب الإعلامي ينبغي أن تتحمله الثقافة في المقام الأول، أي أن مرجعية الخطاب الإعلامي الخليجي تعتمد على توحيد أو تناغم المصطلحات التي تعبر عن هذا الخطاب وتصل برسالته إلى الجمهور المستهدف. وهذا يعني أن الثوابت الثقافية التي تجمع دول مجلس التعاون لا بد أن يكون لها دور مؤثر في صياغة هذا الخطاب، أو تغيير ما ينبغي أن يتغير به.

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق