مقالات
أحـلام هـاربـة
حسن المطروشي
تأملت مليا في قول فريدريك شيلر: (لتكن وفيًا لأحلام صباك)، وحاولت جاهدا أن أكون وفيا لحلم صباي الوحيد، وهو حلم لا يتطلب جرأة وشجاعة، وليس كأحلام العشاق والشعراء، وليس كأحلام المتنبي بالخلافة والولاية، وليس كأحلام الفلاسفة كما ذكرها سلامة موسى في كتابه (أحلام الفلاسفة).
إنه حلم بسيط يمكنني أن أبوح به بكل جرأة دون أن يتوجس أحد خيفة مني، لأنني لا أريد أن أسلب أحدا مجده. وعلى كل حال فمجرد الحلم لا يشكل خطرا على أحد، ولكن كما قال راجي الراعي: (لا يجرؤ بعض الناس أن يكونوا ملوكا حتى في أحلامهم).
لقد حلمت طيلة عمري بأن أكون طائرا، لي قدرة الطيور على التحليق والطيران في الفضاء.. أحط من غصن إلى غصن آخر.. أسبح بين الغيوم .. أخترق أشعة الشمس الدافئة.. أنظر إلى العالم وأتأمل الأحياء من الأعالي الشاهقة .. أطير فوق المحيطات والصحاري والغابات والحقول البعيدة .. أهاجر للشواطئ والخلجان والقارات والجزر النائية .. أتتبع المواسم والفصول وأعانق الرياح وأستحم بالأمطار .. أبيت فوق الأغصان وأتسلل إلى مخدع الشمس في استيقاظها الكسول .. أبتكر أناشيدي بحرية تامة، وأطلق صوتي عاليا في سماء الله .. لا شيء فوق رأسي سوى الملكوت الأعلى .. أتحرر من عقد الإنسان وقيوده وعاداته وتقاليده ووصاياه وشرائعه وسلطاته.
إن معنى أن تكون طائرا هو أن تكون في أرقى درجات المخلوقات حرية وانطلاقا، وهذا على نقيض الإنسان تماما!
لقد شكل هاجس الأحلام وتحقيقها هَمّا بشريا قديما، ولذلك ابتكرت الأدبيات الإنسانية الكثير من القصص والأساطير التي تنفس عن الإنسان هذا الهاجس العظيم، ففي المثيولوجيا الإغريقية أن راعيا كان يرى الغنم فهطلت الأمطار في المرعى وعصفت الرياح وحدثت في المرعى هزة عظيمة أحدثت هوة عميقة، فنزل الراعي إلى قعر هذه الهوة متعجبا، وهنا وجد أشياء كثيرة تدعو للاستغراب، منها أنه وجد كائنا ميتا أكبر من الإنسان بقليل يرقد في جوف حصان نحاسي أجوف، له فتحات وثقوب في جنبه يطل منها الراعي على ما في جوف الحصان. وقد وجد الراعي في أحد أصابع الكائن الميت خاتما من ذهب فأخذه وخرج. وقد لاحظ الراعي أنه حين يدير ظهر الخاتم إلى باطن الكف يختفي لابس الخاتم. وحدث أن ذهب هذا الراعي مع الرعاة إلى الملك وفقا لعادة شهرية يتبعونها حيث يعرضون عليه أحوال ماشيتهم ومعايشهم. وحين وصل الراعي إلى القصر راود الملكة وخطط معها مكيدة تخلص على ضوئها من الملك فقتله واستولى على عرشه!
إن مثل هذه القصص ليست إلا محاولات للتصالح مع أحلام بعيدة المنال، تتسلى بها البشرية وهي تتطلع إلى أحلامها الهاربة!
***
قال شاعرُهمْ: يا رفاقُ،
فأَمّا أنا فسأَبْقى
كما أنْجَبَتْني الطبيعةُ .. طائرْ!