مقالات
ثعلب أحمد شوقي بين المذيع أحمد سعيد.. والوزير محمد الصحّاف
زاهر المحروقي
لا يَعرفُ الجيل الجديد المذيع أحمد سعيد؛ فشهرتُه طبقت الآفاق في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، عندما كانت مصر تقود الأمة العربية وتتزعّم القارة الأفريقية وكذلك دول عدم الانحياز، مع وجود عمالقة في السياسة والدين والأدب والفن والإعلام، قبل أن تتراجع مصر في كلِّ المجالات. ولم تستمد مصر قوتَها من قوة القيادة السياسية فقط؛ بل بما كانت تملكه من قوة ناعمة، استطاعت بها أن تصل إلى الشعوب العربية كلِّها من الخليج إلى المحيط عبر علمائها الأجلاء من خريجي الأزهر الشريف، الذين طبّقوا الوسطية والإسلام النظيف, وكذلك عبر قرّاء القرآن الكريم، والمدرِّسين المصريين، والأفلام والمسلسلات المصرية، وكذلك الأغنيات المصرية، التي انتشرت في الوطن العربي؛ فكان هناك المشايخ محمد متولي الشعراوي، ومحمد الغزالي، ومحمد صدِّيق المنشاوي، وعبد الباسط عبد الصمد، ومحمود خليل الحصري، ومحمود علي البنا، ومصطفى إسماعيل وغيرهم الآلاف، كما كان هناك أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد حسنين هيكل، وطه حسين، ويوسف إدريس، ونجيب محفوظ، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، ورياض السنباطي، وفريد شوقي، وفاتن حمامة. بل كانت هناك الآلاف من الأسماء الكبيرة واللامعة في كلِّ المجالات، حيث كان العرب يقرأون ويشاهدون ويستمعون ويستقبلون كلّ ما ينتجه المصريون. وقد ظهر المذيع أحمد سعيد في تلك الفترة، التي كانت مصر تخوض فيها أعظم معاركها في سبيل الحرية والاستقلال والعزة والكرامة، لها وللأمة العربية؛ فكان العرب في مشرق الأمة ومغرِبها يعرفون أحمد سعيد ويتابعون تعليقاته وبرامجه عبر إذاعة «صوت العرب»؛ وهي التعليقات التي كانت تسبب الإزعاج للكثيرين، خاصة للأنظمة التي كان يسمِّيها الزعيم جمال عبد الناصر بـ «الأنظمة الرجعية». لستُ بصدد الحديث عن أسباب التراجع المصري الآن، فهي قد تكون معروفة ومشاهدة؛ إلا أنه لا بد أن أشير – بما أنّ الحديث يدور حول الإذاعي أحمد سعيد – إلى أنّ الإعلام المصري هبط إلى الحضيض، بعدما كثرت القنوات الفضائية الخاصة، وأصبح عمل المذيع عملا سهلا يمتهنه أيّ أحد، دون ثقافة ودون تدريب، والأدهى من ذلك أن تغيب رسالة الإعلام عن هذه الفضائيات؛ فظهرت برامج فيها من التهريج الكثير، وظهر مذيعون هم أقرب إلى أن يكونوا مجرد «ثرثارين»، يثرثرون في كلِّ شيء، في ساعاتٍ طويلةٍ دون أن يقولوا شيئًا ذا بال وقيمة. بل ظهرت ثقافة هؤلاء «الثرثارين» متدنية إلى أبعد الحدود؛ فلا يعرفُ المذيعُ أو المذيعةُ أسماء الدول العربية، ولا عواصمها، ولا شخصياتها، وإذا عرفوا شيئًا من ذلك فإنّ النطق لن يكون سليمًا. «يسأل مذيع التوك شو، لا ليبحث عن الجواب من مصدره؛ بل ليفتي في كلِّ شيء، وكأنّه يعرف كلَّ شيء وكلَّ الأسرار، ويحلِّل ويستنتج ويثور ويغضب ويهدأ، ويبدي كلَّ انفعالاته، وكأنه ممثلٌ يقدِّم عرضًا على خشبة المسرح كلَّ يوم لوحده»، حسب رأي مارلين سلوم، في مقال بعنوان «حكواتي الشاشة يكذب بالألوان»، نشرته جريدة الخليج الإماراتية في 29 أغسطس 2014.
عندما أشاهد برامج الثرثرة تلك، وأشاهد مستوى أولئك المذيعين، تستعيد ذاكرتي موقفًا حكاه لنا زميلي المذيع أحمد بن خميس الحوسني. فقد جاء أحد المواطنين إلى بوّابة الإذاعة، واتصل بالاستوديو، فإذا أحمد الذي يردّ عليه. قال ذلك المواطن: لقد بحثتُ عن العمل في كلِّ مكان ولم أجد، وقرأتُ إعلانًا لأحد الفنادق يطلب فيه طباخًا، فذهبتُ إليهم، إلا أنهم لم يقبلوني. عندها قلت: «خلاص.. الأفضل أن أشتغل مذيعًا؛ لذا جئتُ إليكم». قلتُ لأحمد حينها: «أصبحَتْ شغلة المذيع شغل من لا شغل له»؛ ولا يُستبعد أنّ هؤلاء الثرثارين المصريين وصلوا إلى الميكروفون والجلوس أمام الكاميرات بالطريقة نفسها التي أرادها هذا المواطن العماني.
ليس من العدالة أن يُقارَن العملاق أحمد سعيد بهؤلاء الثرثارين، لا في ثقافته وثقافتهم، ولا في مستوى الرسالة التي كان يحملها أحمد سعيد وهؤلاء؛ إلا أنّ هذا الانحطاط قد أثّر كثيرًا على سمعة مصر، وكان من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تراجع الدور المصري.
ويُرجع عمرو موسى وزير الخارجية المصري وأمين عام جامعة الدول العربية الأسبق، سبب هذا الانحدار إلى أنّ «التحديات كانت قوية، ولم يكن الحكمُ في مصر في معظم عهوده على قدر المسؤولية. لم يفهم قيمة مصر العظيمة. ولم يقدِّر قط أنّ عنفوان مصر يكمن في تعليم أجيالها تعليمًا جيّدًا، وفي التخطيط السليم لمستقبلها، وحسن ترتيب أولوياتها، وفي تعظيم قوّتِها الناعمة، التي هي أساس قوّتِها وجوهر ريادتها»، وذلك في الصفحة 27 من كتابه «كتابِيَهْ» الصادر عن دار الشروق. وفي الواقع هي أسباب منطقية، يمكن أن تنطبق على كلِّ الدول.
***
منذ هزيمة يونيو 1967، وحتى رحيله عن هذه الدنيا مساء الإثنين الرابع من يونيو 2018، عن عُمر ناهز الثلاثة وتسعين عامًا، وُجِّهت لأحمد سعيد اتهاماتٌ كثيرة، كلّها تدور حول أنه كان من «آل شوبش»، الذين تناولناهم في المقال السابق؛ وهم الذين يُزيِّنون للحُكّام سوء أعمالهم، وبأنه كان مثل ثعلب أحمد شوقي في قصيدته «الثعلب والديك»؛ حيث برز في ثياب الواعظين، فمشى في الأرض يهدي ويسب الماكرين.
يَتّهم البعض أحمد سعيد بأنه أذاع بيانات كاذبة عن مصادر عسكرية أعلنت عن انتصارات للجيش المصري في تلك الحرب، وثبت لاحقًا كذب هذه البيانات. ورغم أنّ أحمد سعيد لم يكن إلا قارئًا للبيانات العسكرية التي كانت تأتيه، إلا أنّ خصوم أحمد سعيد، من العرب الذين كان يهاجمُهم في بياناته، ألصقوا تهمة تلك البيانات الكاذبة له، وكأنها من تأليفه، وكأنه هو السبب في تلك الهزيمة النكراء، التي حاول محمد حسنين هيكل أن يخفف من آثارها وسماها «النكسة». وأنا – كمذيع لسنوات طويلة – أعرفُ حقّ المعرفة، أنّ أحمد سعيد قام بدوره الوطني خير قيام، ولن يفيده دفاعي عنه في شيء؛ فالرجلُ بين يديْ الله، وأفضى إلى ما قدّم. فلا يَخفى أنّ هزيمة يونيو 67، كانت كارثة على الشعوب العربية قاطبة، وقد أحدثت تلك الهزيمة صدمة كبيرة للعرب وللقيادة المصرية نفسها، التي اجتهدت فيما بعد لتصحيح المسار. ولكن الذي يجب أن نعرفه أيضًا هو أنّ الإعلام لا بد أن يقوم بواجب التعبئة في السلم أو الحرب، ولا بد أن يكون الإعلام مسخرًا للحرب، وأن يرفع من معنويات الشعب في الصمود والدفاع عن الوطن، وألا يؤدي إلى إضعاف الروح المعنوية للقوات المسلحة؛ وهذا ما فعله أحمد سعيد، كما فعله فيما بعد محمد سعيد الصحاف وزير الإعلام العراقي إبان الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. والمفارقة أنّ كثيرًا من الكتّاب والمعلقين قارنوا بين أحمد سعيد ومحمد سعيد الصحاف، وكأنّ الإثنين هما سببا الهزيمة والاحتلال. فهل كان من المنطق أن يبقى مسؤولو أيِّ دولة في العالم تتعرّض للتهديد، صامتين، وأن يبقى الإعلام بعيدًا عن التعبئة؟!. المنطق يقول: لا.
يرى أحمد سعيد أنّ الربط بينه وبين محمد سعيد الصحاف متعَمّد، ويحمل شبهة المؤامرة المقصودة، لأنّ هذا الربط يرمي إلى تشويه كلِّ ما يمتّ إلى العروبة والقومية العربية بصلة؛ ففي حوار أجرته معه صحيفة الشرق الأوسط ونشرته في 24 إبريل 2003، يقول: «فهناك الآن محاولاتٌ ضاريةٌ لقتل العروبة في النفوس من جانب هؤلاء الذين أزعجهم أن تخرج المظاهرات بطول العالم العربي وعرضه، تحمل صورة جمال عبد الناصر. ومادام النظام العراقي كان يقوم على أساس قومي، فلماذا لا يتم الربط بين هزيمته وهزيمة 67، وبين بيانات الصحّاف وبيانات أحمد سعيد، ليوحي بأنّ هذا الفكر العروبي هو الذي يسبِّب للأمة الهزائم والنكسات.. هذا هو التفسير الواضح عندي لهذا الربط بيني وبين الصحّاف، وإلا فلماذا يُخرجون أحمد سعيد الآن من «قبره»، وهو بعيدٌ عن الأضواء والأحداث منذ 36 عامًا»؟!. وفي أكثر من مقابلة صحفية قال أحمد سعيد: «من يتّهمني ويقول إنّ أحمد سعيد كان يذيع بيانات كاذبة أثناء حرب 1967، فإنه لم يعرف حقيقة العمل الاعلامي؛ فلا تستطيع أيّ صحيفة أو إذاعة أو قناة تليفزيونية، عندما يأتي إليها بيانٌ من أيِّ وزير في الدولة – وهي في حالة حرب – أن تمتنع عن نشره. وعندما يأتي إلينا بيانٌ من القيادة العسكرية بالتليفون، ويقول لنا إنّ القوات المسلحة أسقطت خمسين طائرة مثلًا، ونحن كإذاعة أو تليفزيون جزءٌ منه؛ فهل سنناقشه؟ فإذا ناقشناه وامتنعنا، فله أن يُطبِّق علينا قانون الإعلام». وأرى أنّ هذا الرد مقنعٌ تمامًا، ويعرفه كلُّ من اشتغل في الإعلام سواء المسموع أو المُشَاهَد أو المقروء، وهذا الرد هو شهادةُ براءة لأحمد سعيد من تهمة الكذب والتضليل التي ألصقت به؛ ومع كلِّ ذلك ظلَّ الرجلُ ثابتًا في مواقفه، مدافعًا عن مبادئه وعن قيادته التي أبعدتْه عن العمل، وهو في قمة الشباب والعطاء، مؤمنًا بوطنه، وهي من الحالات النادرة أن يثبت الإنسان على مبادئه، رغم ما أصابه من ظلم.
أما سبب إقالة أحمد سعيد من إذاعة «صوت العرب» التي أسّسها، فقد أشار إليه أحمد نفسُه في أكثر من مقابلة صحفية أجريت معه؛ ومنها مقابلة مع الصحفي المصري وائل قنديل نشرها في صحيفة «العربي» الناصرية في نهاية تسعينيات القرن الماضي كما يسرد في مقاله التأبيني لأحمد سعيد بعد يومين من وفاته، تحت عنوان «هل دعا أحمد سعيد إلى اغتيال عبد الناصر؟» نشر في صحيفة «العربي الجديد». بتاريخ 6 يونيو 2018. أشار فيها أنه في نهاية تسعينيات القرن الماضي، روى له أحمد سعيد قصته مع عبد الناصر والإذاعة والنكسة في حوار طويل في صحيفة «العربي» الصادرة عن الحزب الناصري في ذلك الوقت. ففي أعقاب النكسة، وبعد سقوط الأكاذيب، كان أحمد سعيد يقدّم تعليقًا يوميًا على الأحداث، عبر «صوت العرب» التي أسّسها وأدارها وتولى رئاستها، حتى بات جهاز الراديو يُعرف باسمه واسمها، وكانت لهجته أشدّ وأكبر من قدرة سلطة عبد الناصر على احتمالها، إذ كان يرى في النكسة هزيمة نظام، لا هزيمة جيش، وجاهر بذلك بصوته، عبر موجات الأثير، حتى إنهم فرضوا عليه رقابةً مشدّدة، بحيث لا يذيع شيئًا من دون مراجعة رأس السلطة. أما الذي أغضب جمال عبد الناصر في تعليقات أحمد سعيد، وكما روى الأخير بلسانه، أنه لم يتمالك نفسه، حين طرحت مبادرة وزير الخارجية الأمريكية وليم روجرز، عقب النكسة، لإيقاف الحرب بين مصر وإسرائيل لمدة 90 يومًا. ووجد اتجاهًا من جمال عبد الناصر للقبول بها، فتحوّل تعليقه اليومي إلى بركانٍ من الغضب والتحذير من هذه الخطوة الاستسلامية، ووصل الغضب بأحمد سعيد إلى أن قال، موجهًا الحديث إلى عبد الناصر، إنه في حالة الاستسلام لمبادرة روجرز والدخول في مفاوضات مع العدو، ودماءُ الجنود على رمل سيناء لم تجفّ بعد، فإنّ الأمة العربية لن تعجز عن أن تقدِّم «مصطفى شكري عشو» آخر، لينقذَها من هذا المصير. كانت تلك العبارات هي القاصمة لعلاقة أحمد سعيد بـ «صوت العرب» ونظام عبد الناصر، إذ أنّ مصطفى شكري عشو هو الفلسطيني الذي نفّذ عملية اغتيال الملك عبد الله الأول، ملك الأردن، في ساحة المسجد الأقصى عام 1951، بعد ذيوع أنباء دخول الملك مع الصهاينة في اتفاقيات تكِّرس احتلال فلسطين. وبعد هذا التعليق مباشرة، أرسل وزير الإعلام، محمد فائق، إلى أحمد سعيد يقول له إنه من الواضح أنّ أعصابه مرهقة، وعليه أن يستريح في بيته حتى يهدأ، فكانت استقالته، أو بالأحرى إقالته، من «صوت العرب».
سواء كان سبب إقالة أحمد سعيد هو ما أشار إليه وائل قنديل أم غيره، فإنّ ذلك لن يقلل من إذاعة «صوت العرب»، ومن الدور الذي قامت به في محاربة الاستعمار وأعوانه في المنطقة؛ وبالتالي فلن يلغي الدور الوطني الذي اضطلع به أحمد سعيد، الذي يُعتبر واحدًا من أهمِّ المذيعين في الإذاعة المصرية في تلك الحقبة، وعُرف بأسلوبه المميّز في الأداء الإذاعي في ذروة انتشار صوت العرب كصوت لثورة يوليو، من خلال تعليقاته وبرامجه التي كان أشهرها برنامج «أكاذيب تكشفها حقائق»، بالمشاركة مع زميله محمد عروق، الذي خلفه في كرسي رئاسة «صوت العرب». والمؤكد أنّ أحمد سعيد لم يكن ضمن فرقة شوبش، ولم يكن ثعلبًا مكّارًا؛ فنهايةُ مشواره الإذاعي خيرُ دليل على نزاهته، وكذلك موقفه من الثورة المصرية لم يتغير. وعلى الأجيال الإعلامية الجديدة أن تقرأ سيرته ومقابلاته الصحفية وهي متوفرة في مواقع النت. ونحن في انتظار نشر مذكراته التي أشار إليها الكاتب عبد الله السناوي، وقال إنها بحوزة أهل أحمد سعيد، لأنها ستُلقي ضوءا على حقبة مهمّة في التاريخ العربي.