مقالات
حنا مينه ناقداً
نبيل سليمان
صدرت في دمشق في عام 1957 المجموعة القصصية الأولى للكاتب السوري نصر الدين البحرة، وعنوانها (هل تدمع العيون). وقد مثلت أصداؤها آنئذٍ جولة من جولات معركة (الواقعية). ومن أبرز تلك الأصداء ما كتبه حنا مينه – الذي كان في أوج شبابه، وصاحب رواية واحدة – تحت عنوان (دفاع عن الواقعية) في مجلة النقاد السورية المحتجبة. وقد قسم حنا مينه ما كتب إلى قسم يتحدث عن الواقعية بعامة، وقسم تطبيقي على مجموعة (هل تدمع العيون).
ليست الواقعية تعبيراً عن العالم أو عن مذهب معين، كما ذهب حنا مينه، بل هي طريقة خلاقة من طرق التعبير، كانت قبل ظهور الاشتراكية العلمية. والحادث الواقعي والتجربة الشخصية لا يكفيان لإطلاق اسم الواقعية على هذه القصة أو تلك. ويتحدث حنا مينه عن الاتجاه المتطور في الواقعية الذي يقوم على ملاحظة تطور الحياة، والتوافق الفني، كما يؤكد أن الواقعية لا تخشى تعدد الأساليب، وأن مفهوم الأقصوصة قد تمركز حول الموقف النموذجي في الحدث. وفي التطبيق على قصص نصر الدين البحرة، رأى حنا مينه أنها حكايات، لا تميز بين الحدث الاجتماعي ذي الدلالة وبين الحدث العرضي. وهذه القصص تفتقد المركزية، وقد أراد صاحبها تقديم أفكار طيبة عن طريق نماذج طيبة، وهذا وحده لا يكفي. فالأسلوب أسلوب مذكرات، والوصف مصطنع، والتفصيلات زائدة، واللغة بحاجة إلى عناية قصوى، والحوار غير منسجم. أما دعوى البساطة فمردودة، لأن البساطة يجب أن تقوم على الخبرة، وليست ستاراً للضعف.
وقد ردّ مرتين نصر الدين البحرة الذي كان يوقع باسم (عابر سبيل) في مجلة النقاد نفسها، حيث له زاوية نقدية. وجاء رده الثاني تحت عنوان (لماذا لا نسميها واقعية اشتراكية؟). كما رد على حنا مينه هشام النحاس في المجلة نفسها، وفي سياق هذه الجولة من جولات معركة الواقعية. وهذا ما نجد نظيره حول ما كتب حنا مينه تحت عنوان (أنت تعيش في غرفة مقفلة النوافذ والأبواب)، مخاطباً الشاعر نديم محمد (1907-1994). وقد حدد مينه أزمة الشاعر بأنها أزمة أدب النهد والساق، وتساءل عن تجاهله لفلسطين والوضع العربي، كما اعترف بشاعريته، ودعاه إلى الخروج من قوقعته. وقد كتب الشاعر علي الجندي (1928-2009) منحازاً إلى نديم محمد، وأعلن أنه مع كروتشه الذي يعتبر النقاد أدباء فاشلين. وتضامن عبد السلام العجيلي (1918-2006) أيضاً مع نديم محمد، فكانت بكل ذلك معركة نقدية أخرى.
من المألوف أن الروائي أو الشاعر ينفي عن نفسه (شبهة) الناقد حتى لو كانت له كتب في النقد، وليس فقط تأملات أو مقالات أو سجالات أو تنظيرات، مما يتعلق بتجربته وتجربة غيره. وبالمقابل ثمة مبدعون كبار كانوا نقاداً كباراً أو متواضعين، وحسبي أن أذكر من الراحلين جبرا إبراهيم جبرا (1920-1994)، ورضوى عاشور (1946-2014)، ومن الاحياء محمد بنّيس وإلياس خوري وأحمد المديني ومحمد برادة وأدونيس.. والملاحظ بقوة في العقود الأخيرة أن عدداً متزايداً من الكتاب والشعراء يحملون شهادات عليا في النقد، ويعملون بتدريسه في الجامعات.
وبالعودة إلى حنا مينه القادم إلى الرواية والنقد من خارج المدرسة، فإلى ثمان وثلاثين رواية، له أيضاً من الكتب ذات الصلة بالنقد: (هواجس في التجربة الروائية – 1982) و(كيف حملت القلم – 1986) و(حوارات وأحاديث في الحياة والكتابة الروائية – 1992) و(القصة والدلالة الفكرية – 2000). وعن الأخير بخاصة كتب محمد كروب (1929-2013) تحت عنوان (في مقاربة الناقد الأدبي الموجود في إهاب حنا مينه). وهذا الكتاب شبه التعليمي للكاتب الناشئ في فنون القص، من الكتب التي باتت نادرة بعنايتها بالقصة القصيرة.
لقد رددت عالياً وطويلاً أن دراية الشاعر أو الروائي بالنقد ضرورية ضرورة وعي المرء لذاته ولحرفته. وأن من يتباهى من المبدعين بجهلهم النقدي، ويتعالون على الجناح الثاني للأدب: النقد، لا تحميهم موهبتهم. وبالطبع لا يعني ذلك أن الكاتب مطالب بالدراسة الأكاديمية للنقد، ولا بممارسته للنقد.