مقالات

نطبِّع أم لا نطبِّع..؟!

زاهر بن حارث المحروقي

حالتُنا هذه الأيام تُشبه حالةَ أهل مريضٍ تُجرى له عمليةٌ جراحية، إذ هم في قلق خارج غرفة العمليات، ينتظرون أيّ إشارة من الجرّاح ليُطمئنهم عن حال المريض ومدى نجاح العملية، وهل سيتشافى المريض ويعود إلى حالته الطبيعية أم أنّ لله القدير رأيًا آخر؟!.

في حالاتٍ كهذه يتعرّض أهل المريض إلى ضغوط نفسية وجسدية شديدة قد تفوق ما يعانيه المريض، وقد يصل إلى البعض بأن يُحسّوا بأعراض المرض نفسه وهم في الأصل معافون. هذه هي حالتنا ونحن نتابع كلَّ يوم التصريحات الإسرائيلية والأمريكية، التي تؤكد أنّ الدولة الثالثة التي ستُطبِّع علاقاتها مع إسرائيل هي عُمان، وسط غياب تعليق رسمي عماني ينفي تلك التصريحات أو يؤكدها، بلغة واضحة وصريحة لا لف فيها ولا دوران، ولا تعطي المتلقي فرصة لأنْ يستنبط ما في الإعلان كلٌ حسب فهمه.

التصريحات الإسرائيلية على أعلى المستويات تؤكد أنّ الدولة القادمة في التطبيع هي عُمان وقد تكون السودان. وسواء كانت هذه المعلومة صحيحة أم تدخل ضمن الضغوط، فإنّ على المسؤولين العمانيين أن يكونوا مدركين أنّ التطبيع مع الكيان الصهيوني مرفوضٌ شعبيًا، ولن يكون له أيّ مردود إيجابي لا على عُمان ولا على العمانيين، ولا على الفلسطينيين؛ بل إنّ مضار هذا التطبيع ستظهر عاجلا وآجلا، وهي كلها أصلا مضار.

ولو فرضنا أنّ هناك ضغوطًا تُمارَس ضد عُمان لتلحق بالمُطبعين – وهي موجودة ولا يمكن إنكارها – إلا أنّ الثبات على المبدأ، والأخذ برأي الشعب في هذه القضية، سيبقى درعًا حصينًا للوطن من الانزلاق إلى ما لا يُحمد عقباه؛ فقد رأينا من قبل كيف تهاوت الدول التي طبّعت علاقاتها مع الكيان الصهيوني، وكيف قدّمت التنازلات وهي ذليلة، ولم تستطع أن تتراجع بعد أن أدخلت نفسها في دوامة التطبيع. وهذا ما حصل مع الرئيس السادات، والملك حسين، ومع الرئيس ياسر عرفات، الذي ذهب إلى مفاوضات أوسلو، فإذا هو يجد نفسه قد دخل في لعبة لم يستطع أن يخرج منها حتى وفاته المؤلمة، رغم أنه قام بحركة مسرحية ليس لها سابقة في التاريخ، عندما أراد أن يخدع الكلّ، في الرابع من مايو 1994، عندما احتضنت القاهرة مراسيم التوقيع على ما عُرف آنذاك، بـ”اتفاق غزة – أريحا”، الذي جاء في سياق تنفيذ اتفاق “أوسلو”، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بهدف تحديد وتوضيح ترتيبات الحكم الذاتي الفلسطيني، في الضفة الغربية وقطاع غزة.

جاءت الحركة المسرحية، بعد أن اكتشف الرئيس عرفات ومساعدوه عندما جاءت لحظة التوقيع، أنّ الخرائط المرفقة بالاتفاق، تتضمن خدعًا إسرائيلية، انتبه لها عرفات ومساعدوه في آخر لحظة، إلا أنّ ذلك لم يحُل دون التوقيع على الاتفاق، عقب مداولات استمرت عشرين دقيقة، بعد أن صرخ الرئيس حسني مبارك في وجه عرفات بصوت عالٍ “وقّع يا ابن الكلب”.

وسواء كان الرئيس عرفات رافضًا التوقيع أو مترددًا، فإنّ ذلك لا ينفي أنه قد أخذ مقلبًا كبيرًا – كما أخذه من قبل الرئيس السادات، الذي أهين أيّما إهانة، حتى بعد لحظات التوقيع مباشرة – وهو أيضًا ما شاهدناه في البيت الأبيض، عندما وقّعت الإمارات والبحرين على اتفاقيات التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، إذ ظهر الموقِّعان العربيان ظهرا على هامش لا يليق، وأخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بيد حليفه نتنياهو، بعد التوقيع مباشرة، تاركيْن ابن زايد والزيّاني في الساحة وكأنهما ليسا موجودين.

قد يقول البعض – وقد قالوه من قبل – إنّ الرئيس السادات استعاد سيناء، وإنّ الرئيس عرفات قد أخذ بعضًا من أرض وطنه؛ إلا أنّ هذا الكلام سيبقى ناقصًا؛ فسيناء مكبَّلة بقيود لا تستطيع مصر أن تتصرف فيها إلا بموافقة إسرائيل، وكذلك فإنّ وجود منظمة التحرير الفلسطينية وهي حركة مقاومة، أفضل بكثير من وجود دولة وهمية منزوعة الكرامة، لا تستطيع أن تُدخل سكينًا إليها، إلا بموافقة إسرائيل.

    نحن في عُمان، لسنا في حاجة إلى الذهاب إلى متاهة التطبيع، لأننا نختلف عن بقية الدول التي طبّعت حتى الآن. ولا ينبغي أن نكون مجرّد ورقة يلعب بها الرئيس ترامب لكي يفوز بفترة رئاسية ثانية، ولا ينبغي أن ننقذ نتنياهو من مشاكله الداخلية الكثيرة، فعُمان دولة عريقة لها تاريخها العريق، وكانت دائمًا مستقلة في قراراتها، ولا تتبع أحدًا، حتى وإن كان في بعض القرارات ما رآه البعض خطأ، كتأييد الرئيس السادات في سلامه المزعوم مع إسرائيل، وكذلك استقبال ثلاثة من رؤساء الحكومات الصهيونية، إلا أنّ ذلك كان من صميم استقلالية القرار العماني. ثم إنّ لدى عُمان أوراقًا كثيرة يمكن أن تستغلها ضد ضغوط التطبيع و”الجهر بالمعصية”، حسب مصطلح الكاتب علي بن مسعود المعشني.

    من هذه الأوراق أّنّ القرار العماني كان مستقلا تمامًا في كلِّ القضايا التي مرّت بالأمة العربية وبالمنطقة. وتستطيع عُمان أن تلعب بورقتي إيران واليمن؛ فتطبيعُ السلطنة يعني أن تصبح عُمان في معسكر العداء الصريح مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ وهذا يتعارض تمامًا مع منطق التاريخ والجغرافيا والواقع. وماذا نحن فاعلون إذا طالبت إسرائيل بإقامة قاعدة عسكرية في مسندم كرأس حربة متقدم ضد إيران؟! وماذا نحن فاعلون إذا أرادت إسرائيل أن تستحوذ على الدقم؟! وماذا نحن فاعلون إذا تدخلت إسرائيل في الشؤون الداخلية وفرضت علينا ما فرضته على الآخرين من تغيير المناهج، وتقديم ادعاءات تاريخية زائفة عن اليهود في عُمان؟! وماذا نحن فاعلون إن طُلب من عُمان أن نقف ضد اليمن وتدخل ما يسمى بالتحالف ضد اليمن؟! وماذا وماذا وماذا..؟!. كلّ تلك المطالب ستكون، بل أكثر من ذلك حتى يصل الأمر بأن لا يكون لنا قرار مستقبل. وفي سبيل ماذا..؟!

    لا يمكن أن أتصور – وأكيد هناك غيري كثيرون– أن تهدم عُمان كلَّ ما بنته من استقلالية، رغم الظروف الصعبة التي مرت بها، وأن تفقد كلَّ ما بنته من حيادية وتأثير، وأنّ تضيع صفة الوسيط المقبول والنزيه في ملفين ملتهبين في المنطقة؛ هما الملف الإيراني واليمني. وإذا فقدت عُمان تلك المكانة بسبب التطبيع – إن تمّ لا قدّر الله – فإنّ ذلك سيكون بصريح العبارة، حماقة سياسية من العيار الثقيل، وسيتم حرق ورقة السلطنة في قمار سياسي مراهق وخاسر لا محالة، وهذا ما يتمناه المطبّعون، وهذا سيكون في خدمة الجيران اللدودين الذين تربصوا بنا الدوائر ولم يفلحوا، وإن أفلحوا -لا سمح الله – فسيكون ذلك بسببنا وبأيدينا.

    برغم كلِّ التصريحات الإسرائيلية والأمريكية حول تطبيع عُمان مع الكيان الصهيوني؛ إلا أننا ما زلنا نُحسن الظنّ في قيادتنا، ونرجو الله أن تكون القيادة على مستوى الحدث؛ فهي أمام اختبار صعب وأمام اختيارين لا ثالث لهما، إمّا الرضوخ للضغوط وأن تكون عُمان مجرّد ورقة في مهب التطبيع ونخسر كلَّ ما بنيناه (وهذا وارد جدا)، وإمّا أن تميل إلى الداخل وهو الأهم؛ فهناك ملفات كثيرة تنتظر العهد الجديد، وهي الأولى طبعًا، بدلا من التسلح بالوهن “واللهاث خلف تجارة بائرة، اسمها التطبيع”، حسب رأي المحلل علي مسعود المعشني. ومعرفةُ مضار التطبيع والتنبيه لها ليس من باب العاطفة، بل هو من صميم الواقعية، والناسُ بانتظار بيان يوضح لهم ما يتردد في وسائل الإعلام الأجنبية من حكاية هذا التطبيع، عسى أن يسمعوا شيئا يفرحهم ويطمئنهم بأن وطنهم بخير وسيبقى بخير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق