مقالات

الجبل الأخضر أرضنا العالية

حمود بن سالم السيابي

يهل الأخضر الأشم على البال ومعه النباهنة والقبائل الشامخة وكهف النضد وحرب الجبل والغارات والإنجليز و”الفارسة” التي أسقطت طائرة ب”طلقة كند”.
يهل خرافياً كمستقر للعماليق ، ويتسكَّب ساحرا كالفراديس المعلقة بعناقيد العنب وأغصان الرمان وحفيف شجر الجوز.
ولأنّ الجبال أوتاد الأرض لكيلا تميد إلا الأخضر الأشم فهو أكثر من مجرد وتد.
هو الأرض الأخرى التي ترتفع عن الأرض ، وهو الثابت الذي يرجرج كل شيئ حوله فتشرئب إليه الأعناق ليمطرها بالغموض.
ارتبطتُ بالأخضر الأشم مع ربيعيات العمر الوظيفي بجريدة عمان فكان الطريق إليه بالسيارات من بركة الموز إلى عاصمته سيق بين أهم الموضوعات التي تابعتها صحفيا.
وبينما السيارة تصعد بي رفقة ابني مازن من السفح الذي توقده حصيات وادي المعيدن إلى منتجعات الجبل حيث هلال محرم يسكب فضته على مناخات أبرد من أوروبا أخذني التَّحْنان إلى ذلك اليوم الذي سابقتُ فيه الفرح لأرتقيه لأول مرة برفقة الإذاعي الكبير الأستاذ إبراهيم اليحمدي وفريق التصوير التلفزيوني.
يومها حملتنا السيارات لبضعة كيلومترات تم شقها عبر سلاح الهندسة بقوات السلطان المسلحة إلى أن توقفنا عند آخر مرحلة اصطلح على تسميتها في خرائط وأحداثيات سلاح الهندسة ب”جزالي بوينت” نسبة لسعادة العقيد سالم بن عبدالله الغزالي. ومن “جزالي بوينت” نقلتنا الطائرة العمودية لعدة قمم صخرية يجري زرع تجاويفها بأصابع الديناميت محدثة تفجيرا يفت الصخر ويصم الآذان.
وبينما الفريق يصور التفجيرات والزميل ابراهيم اليحمدي يدوِّن النقاط التي ستدعم تعليقه الصوتي كنتُ أسرح في حوليات الجبل الأخضر وأحواله وأنا أقارن الفارق الهائل بين تلك التفجيرات التي حرقت تعريشات العنب وكسرت زجاجات ماء الورد وأفزعت الأطفال في مهادها في منتصف خمسينيات القرن الماضي وهذه التفجيرات التي تشق دروبا تسلكها سيارات الأطباء الذين سيلاحقون الملاريا وسيقهرون التراخوما ويربطون البيوت الحجرية بدروب لحافلات المدارس لكي يصل الطلاب في موعدهم مع رنين الجرس.
إنه مستفتح محرم من عام ١٤٤٢ فأصعد مع مازن جبلا تغير فيه كل شيئ إلا الرمان الذي يباكره الصباح “فيتفلَّق” في أمه إن لم يقطف.
وإلا الورد الذي ما يزال على رائحته ولونه لنشمه في حلوى الأعياد وفناجين قهوة السبلات.
وإلا الكروم التي تتدرج بين الأخضر والأسود ومعها الخوخ والتين والكمثرى والتفاح والجوز واللوز.
وإلا لهفة الناس التي تحج إلى المكان الخرافي لاسْتِكْناه طلاسمه وغموضه وسحره وعجائبه.
وإلا الحب الذي ما زال يتبرعم بحميمية اللهفة الأولى يوم صعدته.
يومها كانت السيارة العسكرية التي حملتنا إلى “جزالي بوينت” بين أوائل السيارات التي هدرت في المكان ، فكل قممه ساكنة إلا من حركة صعودنا مع الديناميت.
وإلّا الوهاد المزروعة بالحجارة المسننة والنبتات البرية الفواحة بالعطر.
على العكس مما هو عليه اليوم حيث يعج بروائح عوادم السيارات وغاز الطبخ واحتراق حطب السمر تحت أباريق ودلال القهوة والشاي.
لقد تخلى المكان عن سكونه ووداعته وعفويته وبساطته فانتقل من مجرد ملاذات حجرية وكهوف إلى مدن تنبض بالحياة.
أدلف فندق “أنانتارا” بين صف من شجر الزيتون وكأنني في “إفران” المغربية أو منطقة القبائل في الأطلس الجزائري.
أقترب من غصن زيتون لطالما تخيلته في كراسة الرسم لأتحسس حباته كعقد لؤلؤ على عنق صبية.
وأشم رائحة تفاح حملتني إلى “ألتسلاند” على الضفة الثانية لنهر “ألبا” في هامبورج.
لقد بات بمقدوري أن أستمتع في هذا السيح المسنن بالحجارة بتناول حساء مشبع بزعتر الجبل وتحتي بانوراما لحقول الورد في أحد أعلى المنتجعات الجبلية في العالم.
لقد تعمَّد “أنانتارا” بنقطة “ديانا بوينت” وليست “جزالي بوينت” فالأميرة الراحلة ديانا أودعت هنا ابتسامتها وحَوَرَ عينيها.
وهنا امتدتْ أصابعها لتجرح الوردة لا لتجرحها الوردة.
لقد تناسى المكان الغزالي والمعدات العسكرية والطريق المتربة التي قادت عشاق هذا الغامض الأشم ليزحفوا إليه وليلموا فوارغ الطلقات من دروبه فيزرعون أجماته بيوتا وحقول ورد ومدرجات تين وعنب ورمان.
يواصل مازن قيادة السيارة وأواصل التأرجح في مدامع الذكريات مذْ لاحت لنا المناخر حيث النباهنة كانوا هنا يبنون المفاخر.
نصعد باتجاه حيل اليمن فهذه اليمن التي تغوص في أعماقنا وأروماتنا وقصائدنا وتتكرر في جغرافيتنا فنعليها رايات على سواري الأمكنة.
هذه الشريجة التي كانت أرففا من البيوت الحجرية والمزروعات وقد قاربتها يوما وبيدي عنقود عنب التهمت حباته دون أن أغسله إذْ كنا أقوى من الفيروسات وكانت لدينا المناعة التي تحصننا من كل الملوثات.
هذا سيح قطنة الذي لم يترك لمصطلح السيح غير اسمه بعد أن بات مدينة مزروعة ببيوت وحدائق ذات بهجة.
أفتح نافذة السيارة لأصافح حبات الرمان التي فرعت من السور لتتدلى في وجوه العابرين.
وأتنقل بين جدران مظفورة بالثمر كالحلم.
هذه العين وسيارات الدفع الرباعي تنساب لمدرجات الورد لأجل “سلفي” يعطر العمر.
وتلك سيق عاصمة الجبل الغائصة بين الأخشبين تتنفس ثمارها الفردوسية فتعرج بها من القاع الغائر إلى السماء.
هذا وادي بني حبيب وقد وصلناه عبر سلسلة من الفيلات الحديثة الطراز كفيلات الخوض والجولف والصاروج ومرتفعات المنى وتلال المطار والإعلام.
أقترب من بانوراما قاع الوادي المغزول بالرمان وتعريشات العنب فأجده ذاته مع أول إطلالة كانت لي بالمكان بل وقبلي بمئات السنين.
نترك وادي بني حبيب يطارد بلابله وفراشاته فنعود إلى سيح قطنة في زفة من الروائح الزكية لنلوِّح عبر الدرب المتعرج لكهف النضد فنتحسس سحجات القذائف التي مسدت الصخر دون أن ترعب الذين كانوا هنا يتدارسون قرآن الفجر ويفطرون على تمر البُرْكة وتنوف ، وقهوة الغافات وبلاد سيت ووادي الأعلى.
يأخذنا الطريق من قطنة يسارا باتجاه حيل المسبت لنسترجع جلسة غداء على كرم شيخنا سالم بن رشيد الناعبي.
ما زال الشجر المعمر الذي تفيأناه معه قبل سنين مكانه وقد أضاف هطول المطر غديرا أعادني لبحيرة “أليستر” لولا غياب البجع ، ولولا اقتراب جحش أعادني “للأوستن مارتن” الذي هرب مع الصبا وما يزال .
خرجنا من غدير حيل المسبت باتجاه منتجع “أليلا” وكان المساء قد تلفع عباءته وهلال محرم يطل حييا من غمامة عابرة فيسكب فضته على لوحة المنتجع الأشهر والأحدث في الجبل الأخضر.
إنه fully booked كررها الحارس الذي ينتصب في الليل كرمح ليذود عن حياض المكان وهو يقطع علينا الدرب فيحول بيننا وبين احتساء “اكسبريسو” يسبح على صفحة فناجينه هلال محرم.
عدنا وحيل المسبت قد أشعل مواقده فالسُّمَّار بدأوا يطبخون العشاء وبلفقيه يحرك الليل الناعس على نسناس وادي دوعن.
اخترقنا الظلام وتحتنا سيح قطنة يعوم في مجرة من ضياء فنزلنا من شامخ لشامخ حتى القاع ، والأخضر الأشم الذي ودعناه عند آخر نجمة يسترد مع وصولنا السفح أمسه الغابر في الذاكرة.
لقد عاد من جديد النباهنة وعادت “جزالي بوينت” ورحلتي إلى كهف النضد مع شلة جريدة عمان ، وحفيف ظل الشجر يتقصف على مائدة الشيخ سالم الناعبي في حيل المسبت وكل الدموع التي ذرفناها شوقا هناك.
اقتربنا من مسجد اليعاربة في بركة الموز نغسل في الخطمين التعب ونتوضأ لصلاة العشاءين وكان بيت الرديدة قبالتنا وقد انطفأت قناديله فالشيخ سليمان بن حمير لم يعد هنا ولا خيوله ولا الرجال الذين يخوضون البحر متى خاضه.
وكان المسير إلى مسقط كئيبا عكس المجيء رغم أن بعضا من ثماره كانت معنا ، والكثير من روائحه صاحبتنا إلا أن الجو غير الجو والمكان غير المكان.
————————
مسقط في ٢٢ أغسطس ٢٠٢٠م

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق