العام

خطاب«عناوين النهضة المتجددة» في مسيرة عمان المعاصرة

كثيرة هي الدلالات والمضامين التي تضمنها الخطاب التاريخي الذي ألقاه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ يوم الأحد الموافق 23 فبراير. خطاب حظي منذ أول وهلة لبثه بردود أفعال واسعة تناولته بالاحتفاء والترحيب والتحليل، بهدف تقديم قراءات ومقاربات لإضاءة هذه المضامين الكثيرة والكبيرة التي ينطوي عليها. وفي نظرنا أن ثمة دلالات سياقية أخرى أيضا خارج نص الخطاب يمكن الوقوف عندها، وهي التاريخ والزمان والمكان وإشارات اللحظة من حيث اختيار التوقيت الذي ألقي فيه الخطاب، وكذلك دلالات المكان الذي ظهر فيه جلالته أثناء إلقاء الخطاب. كل هذه المواضيع ذات أهمية بالغة، لتصنع من هذا الخطاب خطاب المرحلة التاريخي بامتياز.

رؤية: التكوين

 دلالات الزمان والمكان

إن أول ما يلفت الانتباه اختيار تاريخ «الثالث والعشرين» من فبراير، وهو ما يحيلنا مباشرة إلى تاريخ «الثالث والعشرين» من يوليو المجيد من عام 1970، وهو يوم انطلاق النهضة المباركة التي قادها جلالة السلطان قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه. وهو تاريخ يرتبط في الذاكرة العمانية بالكثير من المعاني التي تمس الوجدان وتلهب المشاعر.

لقد كان الخطاب السامي منتظرا من قبل الشارع وكان حديث الناس والمجالس، ورغم ذلك جاء أشبه بالمفاجاة السعيدة إذ لم يكن أحد يتوقع صدوره في ذلك التوقيت بالتحديد. كما أن اختيار يوم الأحد وهو بداية أسبوع العمل في البلاد، يعد مؤشرا آخر على مراعاة التوقيت بدقة.

الوفاء واستكمال المسيرة

يؤكد جلالته مجددا على الثوابت التي يختطها العهد الجديد بقيادته، وأولها قيمة الوفاء والحفاظ على المنجز والبناء عليه لاستكمال المسيرة الوطنية. وهكذا ينطلق في الأساس من ذكر مآثر السلف العظيم، جلالة السلطان قابوس، الذي أفنى حياته من أجل بناء هذا الوطن وكرامة شعبه. وهذا هو ديدن المخلصين الذين يذكرون محاسن السابقين، فنحن أمة تبني ولا تهدم، تذكر الخير والعطاء بالوفاء والتقدير. من هنا بدأ جلالته خطابه مرة أخرى بالثناء على من وصفه سابقا بـ «أعز الرجال وأنقاهم»، حتى أصبحت هذه العبارة لازمة على كل لسان.

وبكل تأكيد تأتي هذه المناسبة ليتوجه جلالته بالثناء لشعبه الوفي، الذي سطر ملحمة حب عظيمة قل نظيرها في وداع جلالة السلطان الراحل وتأبينه وما أظهره خلال فترة الحداد، حيث تجلت معاني الحب والولاء في أبهى صورها، صورة تليق بأعز الرجال وأنقاهم.

كما نلاحظ في مخاطبة جلالته أبناء شعبه استخدام ذات العبارات الطيبة التي كان يخاطب بها جلالة السلطان الراحل شعبه مثل: «أبناء عمان الأوفياء». وهذا خير مفتتح في مخاطبة الشعب العماني الذي يعتز بحضارته ويفاخر بتاريخه المجيد، لاسيما في معرض التذكير بهذا التاريخ بهدف التمسك بالثوابت الوطنية والهوية والخصوصية والمنهج والقيم التي عرف بها العمانيون.

أعتاب مرحلة مهمة

ثمة تفاؤل كبير يشتمل عليه هذا الخطاب التاريخي بين سطوره الواسعة، كيف لا وهو يأتي من قائد البلاد، جلالة السلطان أيده الله، الذي قال مخاطبا شعبه الوفي: «إن الانتقال بعمان إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم في شتى المجالات،  سيكون عنوان المرحلة القادمة بإذن الله، واضعين نُصب أعينِنَا  المصلحة  العليا للوطن، مسخرين له كافة أسباب الدعم والتمكين».

وقد وصف جلالته في خطابه السامي المرحلة القادمة من مراحل التنمية الوطنية بأنها «مهمة» وأننا نقف على أعتابها، وهذا يشير بوضوح إلى أن خطواتنا باتجاه المستقبل باتت وشيكة جدا، وأن المسيرة على وشك أن تخطو خطوتها المأمولة. كما أوضح جلالته أن هذه المرحلة تقوم على أساس الرؤية المستقبلية «عمان2040». وهي رؤية تولى جلالته ملفها منذ بدايتها. وقد قامت على إشراك المواطن في كافة القطاعات من أجل بناء رؤاها وبلورة أفكارها. هذا ما يتضح جليا من خلال النطق السامي حيث قال: «إننا نقف اليوم، بإرادة صلبة، وعزيمة لا تلين على أعتاب مرحلة مهمة  من مراحل التنمية والبناء في عمان، مرحلة شاركتم في رسم تطلعاتها، في  الرؤية المستقبلية «عمان2040»، وأسهمتم في وضع توجهاتها  وأهدافها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما يجسد الرؤية الواضحة، والطموحات  العظيمة لمستقبل أكثر ازدهارا ونماء، وإننا لندرك جميعا التحديات التي
تمليها الظروف الدولية الراهنة، وتأثيراتها على المنطقة وعلينا، كوننا  جزءا حيا من هذا العالم، نتفاعل معه، فنؤثر فيه ونتأثر به».

كما جاء التأكيد على مبدأ الشراكة المجتمعية واضحا في جانب من الخطاب السامي حيث يقول جلالته، أبقاه الله: «إن شراكة المواطنين في صناعة حاضر البلاد ومستقبلها  دعامة أساسية من دعامات العمل الوطني، ونحرص على أن تتمتع فيه المرأة بحقوقها التي كفلها القانون، وأن تعمل مع الرجل جنباً إلى جنب، في مختلف المجالات خدمة لوطنها ومجتمعها، مؤكدين على رعايتنا الدائمة لهذه الثوابت الوطنية، التي لا محيد عنها  ولا تساهل بشأنها».

وبما أن هذه الرؤية التنموية الطموحة تستهدف المستقبل المشرق فإن عمادها هم الشباب.. الشباب الطموح والمؤهل، المتسلح بالعلم والمعرفة التي تشترطها مقتضيات المستقبل وتفرضها تحدياته. لذا جاء الخطاب مؤكدا على هذا الدور الرئيس للشباب في بناء عمان المستقبل على يد أبنائها البررة المخلصين.

حزمة التحديث

قدم جلالته في خطابه التاريخي رؤية واضحة تقوم على حزمة تحديثات على أكثر من صعيد وطني، أوضحها في قوله: «ومن أجل توفير الأسباب الداعمة؛ لتحقيق أهدافنا المستقبلية  فإننا عازمون على اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل وإعلاء قيمه ومبادئه وتبني أحدث أساليبه، وتبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة؛ لضمان المواءمة الكاملة  والانسجام التام  مع متطلبات رؤيتنا وأهدافها، وسنعمل على مراجعة أعمال الشركات الحكومية مراجعة شاملة بهدف تطوير أدائها ورفع كفاءتها وتمكينها من الإسهام الفاعل في المنظومة الاقتصادية، وسنهتم بدراسة آليات صنع القرار الحكومي بهدف تطويرها بما يخدم المصلحة الوطنية العليا، وسنولي هذه الجوانب كل العناية والمتابعة والدعم  كما أننا سنحرص على توجيه مواردِنا المالية التوجيه الأمثل، بما يضمن خفض المديونية، وزيادة الدخل، وسنوجه الحكومة بكافة قطاعاتِها لانتهاج إدارة كفؤة وفاعلة، تضع تحقيق التوازن المالي، وتعزيز التنويع الاقتصادي، واستدامة الاقتصاد الوطني،  في أعلى سُلّم أولوياتها، وأن تعمل على تطوير الأنظمة والقوانين ذات الصلة بكل هذهِ الجوانب بمشيئة الله».

ويمضي جلالته في رؤيته التاريخية لعمان المستقبل، مؤكدا على كافة قطاعاتها، تلك القطاعات التي تقوم على الابتكار والصناعة وإدارة المشاريع النوعية التي ترتكز على أساس المعرفة، وهذا ما يقتضي إيجاد جيل جديد من الشباب القادر على مواجهة التحديات بما لديه من تأهيل وتدريب وإعداد لخوض المرحلة وفق متطلباتها واشتراطاتها. يقول جلالته حفظه الله، مؤكدا: «إننا إذ نُدرك أهمية قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وقطاع ريادة الأعمال، لا سيما المشاريع التي تقوم على الابتكار والذكاء الاصطناعي  والتقنيات المتقدمة، وتدريب الشباب وتمكينهم؛ للاستفادة من الفرص التي يتيحها هذا القطاعُ الحيوي؛ ليكون لبنةً أساسية في منظومة الاقتصاد الوطني، فإن حكومتنا سوف تعمل على متابعة التقدم في هذهِ الجوانب أولاً بأول».

ولعل من أكثر القضايا المحلية طرحا قضية الباحثين عن عمل، وتوفر الفرص للشباب في مختلف التخصصات. وقد كان الجميع في انتظار ما سيسفر عنه خطاب جلالته في هذا الجانب. إذ إنه بالرغم مما بذلته الحكومة وتبذله من حلول لاحتواء هذه المسألة، إلا أنها ما زالت تعد أحد الملفات الصعبة أمام المرحلة الجديدة، كما تعد أحد الرهانات الكبيرة التي من شأنها أن تعزز وتعمق الثقة في برامج التطوير والتمكين المطروحة. وقد جاء خطاب جلالته، أعزه الله، مؤكدا على أنه سيولي كل الاهتمام والرعاية والدعم، لتطوير إطار وطني شامل  للتشغيل، باعتباره ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد الوطني، يستوجب استمرار تحسين بيئته في  القطاعين العام والخاص، ومراجعة نظم التوظيف في القطاع الحكومي وتطويره، وتبني نظم وسياساتِ عمل جديدة تمنح الحكومة المرونة اللازمة  والقدرة التي تساعدها على تحقيق الاستفادة القصوى من الموارد والخبرات  والكفاءات الوطنية.

مصلحة الوطن والمسؤولية العامة

وبما أن الرؤية تقوم على مبدأ الشراكة بين الحكومة والمجتمع، فإن الخطاب السامي لجلالته بدأ بحشد الهمم وتذكير الناس بأمجادهم وتضحيات أسلافهم، الذين ضربوا أروع الأمثلة في التفاني والإخلاص والعمل، وقد جاء دور الشباب في حمل هذه الأمانة من أجل بناء المستقبل والاستعداد لتحمل المسؤولية. ويعود الخطاب السامي مجددا ليؤكد على ضرورة التكاتف والعمل يدا بيد من أجل صنع المستقبل وتحقيق الآمال الكبيرة. كما يؤكد هنا على أمر غاية في الأهمية وهو الإخلاص وإعلاء مصلحة الوطن، وهو ما تعهد جلالته على صونه.

وبعد تأكيد هذه الثوابت وتوضيح تلك الرسائل الحازمة والجلية حول النزاهة والمحاسبة وإعلاء مصلحة الوطن فوق المصالح الفردية والأنا الضيقة، والتعهد بالعمل على صون هذه المبادئ والسهر عليها، يواصل جلالته حديثه مخاطبا «أبناء عُمان الأوفياء» معاهدا الله عز وجل وإياهم، على أن يكرس حياته من أجلِ عُمان وأبناء  عُمان؛ كي تستمر مسيرتُها الظافرة، ونهضتها المباركة، فإنه يجدد دعوته لهم قائلا: «فإننا لندعوكم لأن تعاهدوا الله على ذلك، ونحن على يقين تام، وثقة مطلقةٍ  بقدرتِكم على التعامل مع مقتضيات هذه المرحلة والمراحل التي تليها، بما يتطلبه الأمر من بصيرة نافذةٍ  وحكمةٍ بالغة وإصرار راسخ  وتضحيات جليلة».

ختاما، يمكننا القول بأن هذا الخطاب السامي بما يحمل من رؤى وأفكار متنوعة، ليؤسس حقا لمرحلة جديدة من مراحل البناء والتنمية التي يتطلع لها المواطن العماني، الذي بات عليه أن يشمر عن ساعد الجد وأن يضع يده بيد قيادته الرشيدة في مسيرة بناء المسقبل المشرق، بإذن الله.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة: الرؤية كاملة تنشر في العدد القادم من مجلة التكوين الورقية، لشهر مارس.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق