إصداراتنا

الجبال لا تنحني

د. سعيد السيابي

(مقطع من رواية “الصيرة.. تحكي” التي ستصدر قريبا)

جبال قريات ملساء صلبة، كرؤوس عملاقة من الصخر، لا ينبت فيها شيء إلا حينما يسمح بعض الخصب في قليل من الأعوام، حين ينزل المطر، وهي قليلة. يفرحها أن ينبت فيها أي شجر، فكيف بوجود أبنائها، بأرواحهم ودمائهم يحتمون بها؟!

 صعد من صعد على الجبال المتناثرة التي تحيط بقريات، جبل الزعتري، والجبل الأسود، وجبل رأس أبو داؤد، وسلسلة جبال الحجر الشرقية.

أيتها الأودية، إننا نحمل معا هموم الأرض وتقلبها، عندما لا يمرّ المطر فيك، وعلى أرواحنا تكونين قاحلة جرداء، إلا من قسوة الحجارة، والرمال المتناثرة، ومخلفات الأمطار السابقة، تبقينا عطشى، متشوّقين لرحمة السماء تنزل الغيث ليجري على ضفافك، فأمطرنا يا رب برحمتك، وأكثر علينا من بركاتك، ونفحاتك، وصلاة عبادك الصائمين القائمين، لتدفئنا بحنين ممتد على أرواحنا، يمنحنا السكون الدائم، فأنت يا الله القادر على كلّ شيء، والعالم بكلّ شيء، والمتربّع على قمم السماء، وأعالي الأكوان، والأجرام السماوية، وما خفي بينهما، فنحن عبيدك، جرينا هاربين بما خفّ من متاعنا، وما استطاعت أيادينا حمله..

 مشى الأهالي من كبار السن والنساء، شقوا طريقهم في أودية قريات المتعرجة، مجموعة قطعت وادي مجلاص الذي ينحدر من رأس وادي السرين، وأخرى ذهبت في طريق وادي صياء، ومن ثم إلى وادي قطفات، حتى يلتقوا بوادي الحريم أسفل قرية عرقي، والبعض ذهب إلى وادي المداوه شرقي بلدة الهبوبية، والأكثرية من مجموعات الأهالي اتجهوا إلى وادي ضيقه، أشهر الأودية الخصبة في قريات، وأغزرها ماء، وأشهر الواحات غنى على مستوى عمان قاطبة، إذ تجري مياهه طوال العام، كنهر من الحسن لم ير العمانيون غيره.

رسم الشهداء بدمائهم ملامح شعبية لحب الأرض الموحدة. هذا الحب كالشجرة التي غرست جذورها العميقة، والظلال الوارفة، التي لا يمكن بأن يسمح لأي أحد أن يمد يده ليؤذيها، فكيف بمن أراد قطعها. هنا وجبت التضحيات الجسام، واكتشف أهل قريات، روعة الموت، دفاعا عن قلبهم النابض، شاطئ الصيرة!

عندما تصعد على أعلى قمة جبلية، تشاهد وجوه الشهداء متناثرة في القرى. قريات حزينة، دخلها اليوم الغروب مبكرا، لكنها تقاوم النعاس باسمها الرنان، الذي هو جزء من قدرها. سُمّيت بهذا الاسم، لكثرة عدد القرى فيها، وهي تعج بالرجال والنساء، ممن يضحون من أجلها.

قراها الشامخة، ومقابرها متجاوراتٌ، وبها جناتٌ بزروع، ونخيل صنوان، وغير صنوان، قراها تحمل مسميات عديدة، عاشت في ذات المساحة، جيل يحمل الراية من جيل، ومن أبرز بلداتها: الحاجر، السوق، الساحل، الرملة، المعلاة، السواقم، الهبوبية، دغمر، الكريب، الشهباري، الفليج، حيفظ، السليل، النحر، حيل الغاف، المسفاه، المزارع، ضباب، بمه، فنس، حي الظاهر. عمق الرباخ، وادي العربين. 

قرى كثيرة، كأنها الأبراج في السماء ترشد العابرين في المحيطات والبحار، فكيف بها اليوم، وهي تتلقى أحلك صفعات الزمن المر، وهي المطمئنة بأهلها، الذين يعيشون متحابين، يجمعهم ذاك المكان المضغوط في المساحة، والكبير في المحبة. الناس لم يكن همهم سوى لقمة العيش. حديثهم وسمرهم هو قضاء الوقت مع الأصحاب، يتبادلون الزيارات المكوكية اليومية بين القرى المتفرقة، فتجدهم كخلية نحل متوحدة مع ذاتها.

لماذا هذه الأرض متوزعة إلى قرى، ومتناثرة بين سفوح الجبال، وأطراف الأودية؟ ببساطة، كي تهب الواحدة في نجدة الأخرى، إذا أصابها مكروه، ولكي تستطيع الواحدة أن تساعد الأخرى في الأفراح، فضيوف قراها عندما يأتون لمناسبة سعيدة، يطلقون عشر رصاصات إشارة لقدومهم، فيرد عليهم أصحاب القرية المستضيفة، بعشرات الرصاصات الترحيبية، وكل ما كان عددها كبيرا، يصم الاذان من كثرتها، فدليل على حفاوة الترحيب، والكرم الذي ينتظر الضيوف القادمين. 

كان النداء يحوم كنسر من فوق تلك الجبال، الحارسة لكل قراها، يناديهم، يا أبناء الأودية، والجبال، والبحر، والقرى، استمروا في تماسك أيديكم في مصافحة قوية، كما توحدتم في أفراحكم. عليكم اليوم، أن تتوحدوا بها ضد الغاصب لأرضكم، ويبارك الله قوتكم، وهمتكم العالية، رغم قلة عددكم، فإن كنتم مائة تغلبون مئتين، وإن كنتم ألف تغلبون الفين، بإرادة الله وشجاعتكم، فأنتم أهل للعزة، والانفة، والشموخ، الذي توارثتموه من أجدادكم الميامين، حاملي السلام والإسلام، جوّابوا البحار والقفار، يحملون قلوبهم بين أيديهم، وخناجرهم على صدورهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق