العام

علي العمري .. كفيف يؤسس منتدى إلكترونيا لمحو الأمية التقنية لدى المكفوفين

روح شاكست الحياة وتمردت عليها حتى انتصرت، سأروي قصة الابن الثاني الذي أقبل على الدنيا مختلفا، متفردا ونادرا، وكعادة بني البشر، لا نعرف كيف نتعامل مع المميز والمختلف، نتنمر عليه فيتمرد علينا، بين شد وجذب، ينبت كشجرة فارعة بطولها، شامخة بذكائها وطموحها، علي بن عبدالله العمري، عاش طفولته في ولاية إزكي التي ولد فيها عام 1986م، وحتى التاسعة من عمره حين اتخذ والده قرارا مصيريا، حيث اضطر لترك حضن الأم ووداع الأخوة والأخوات .. علي العمري يسرد قصة كفاحه في السطور الآتية ..

حوار: أنوار البلوشية

طفل كفيف ومشاكس

صدمة وذهول واستغراب، هكذا استقبل والداي خبر ولادتي بعد علمهم بأني كفيف البصر كليا، فقد كانت مفاجأة وصدمة كبيرة لعائلتي التي لم تمر بمثل حالتي من قبل، دخلوا في متاهة وسط الكثير من التساؤلات حول الأسباب التي أدت لهذا الأمر، والقلق حول كيفية مواصلتي العيش دون القدرة على النظر، ففقدان البصر منذ الولادة كان أمرا غريبا عليهم.

كان الوالد كثير التنقل بحكم عمله في السلك العسكري، فوالدتي هي من كانت بقربي طوال الوقت، لم تكن ذات خبرة في التعامل مع أشخاص كفيفي البصر، ولكن فطرة الأمومة كانت كفيلة بمدها القوة والدافع لتربيتي وتلبية احتياجاتي على أكمل وجه، فقد اجتهدت معي كثيرا، لم أكن طفلا وديعا، أخذت من الشقاوة نصيبا وافرا، وأصبحت صعب الضبط، ولدت لدي فكرة التمرد منذ سن مبكرة جدا، تمردت على كل النصائح بعدم الخروج وعدم الاقتراب من الخطر، فقد نشأت مع أطفال آخرين أقربائي وكنت ألاحظ حريتهم في التنقل والخروج للتجول ولعب الكرة في الحارة، كنت لا أدرك سبب منعي من هذه الحرية التي يتمتع بها أبناء عمي، رغم الاخفاقات وعدم الاستفادة من عنادي كنت أصر على الخروج، أضيع في الأزقة ولا أدل الطريق للرجوع مرة أخرى، في إحدى المرات سمعت أن الأولاد يقودون الدراجات الهوائية فأصررت على حصولي دراجة هوائية، عندما أخبرت والدي برغبتي في ذلك، لم يقتنع فغضبت، ولكن بعد المفاوضات قرر أن يجلب لي الدراجة الهوائية ولكن بشرط أن لا أخرج بها من المنزل، فوعدته بعدم الخروج، ولكن كانت نيتي مختلفة تماما، كنت أخرج في الشارع ومن رحمة الله الذي  حفظني من الوقوع في الحوادث.

الطبيب الروسي والكلمة الأخيرة

في عام 1992 حين بلغت السادسة من عمري، سمع والدي عن طبيب روسي متخصص قدم إلى دبي، حيث نصحه المحيطين بأن يذهب للاستشارة والأخذ بالكلمة الأخيرة والتشخيص النهائي حول حالتي، فكان رد الطبيب سلبيا، حيث لا يوجد علاج لحالتي في الفترة الحالية. هنا حسم أبي الأمر وقرر بأن السعي نحو العلاج وضياع الوقت غير مجدي، ويجب التفكير والمضي قدما لإيجاد الطريقة المناسبة حتى أتلقى التعليم المناسب وأستطيع الاعتماد على نفسي.

بدأت مرحلة مختلفة هذه المرة، خرجنا من دائرة البحث عن علاج إلى البحث عن مركز متخصص لتدريس المكفوفين، استعلم والدي بأن الحكومة تبعث المكفوفين للدراسة في البحرين، بالرغم من رفض والدتي وجدتي إلا أن والدي أصر على إلتحاقي بالمدرسة الداخلية، فهو عن قناعة بأني يجب أن أتعلم حتى أستطيع الاستمرار في الحياة، لم يكن الأمر بالسهولة على عائلتي، ولكن من ناحيتي كنت متقبلا للفكرة وعلى استعداد لخوض التجربة، فقد كنت أشعر بأن التعليم هو الأمر الوحيد الذي لم أستطع التمرد للحصول عليه. كان الابتعاث على حساب حكومة السلطنة بكافة المصاريف بعثة مدفوعة كليا مع التذاكر والمكافأة الشهرية وغيرها، حيث كنا مجموعة، نذهب ونمكث هناك طوال الفصل ونأتي للزيارة وقت الإجازة عند انتهاء الفصل الدراسي. فالتحقت بالمعهد السعودي البحريني للمكفوفين، فقد كان يشكل مقرا يجمع كل الطلبة المكفوفين من دول الخليج كافة.

تحت سماء البحرين

وطأت قدمي أرض البحرين، وشعرت بغصة في قلبي، ففي الأيام الأولى لم أتأقلم مع الوضع وحسبت بأني لا أستطيع الاستمرار والمواصلة بعيدا عن عائلتي، فالغربة صعبة في أي مكان كان الإنسان، الابتعاد عن الجو الأسري صعب جدا، وكذلك قلق عائلتي علي. ولكن تحملت الصعوبات وواجهت التحديات ولله الحمد تسهلت حياتي كثيرا، إن لم أكن قد التحقت بالتعليم في البحرين لكانت حياتي الآن أصعب بكثير، هناك نضجت شخصيتي وتحملت المسؤولية بنفسي، وانخرطت في مجتمع مختلف تماما، يجمعني بغيري من المكفوفين، وكذلك المعلمين والعاملين في المركز اعتادوا التعامل مع المكفوفين، كانت خطوة ساعدتني كثيرا في صقل مهاراتي، تعلمت القراءة بطريقة برايل، وتعلمت الطباعة على الكمبيوتر، المدرسين يجتهدون كثيرا في تعليمنا، حتى أدق الأمور مثل الهندسة والرياضيات كانوا يحرصون على أن نتعلمها.

كانت لدينا مكتبة خاصة بلغة البرايل، أحضروا كتبها من مصر والكويت، كنت أقرأ الكتب الدينية والفلسفة، وكتب الرحلات والمخابرات، درست 9 سنوات حتى الصف الثالث الإعدادي، حتى حان موعد الوداع، بسبب عدم تواجد صفوف الثانوية العامة الخاصة بالمكفوفين في البحرين.

الدراسة مع المبصرين

شددت رحالي وعدت إلى أرض الوطن، ولكن بشهادة لم تكتمل بعد، ولم يرتوِ معها الشغف واللهفة في تلقي العلم، لذا خططت للإلتحاق بالسعودية، حيث تتوفر مراكز للصفوف الثانوية، تأخر قبولي للدراسة في السعودية، فاضطررت الالتحاق بمدرسة عمر بن الخطاب في ولاية إزكي لدراسة الصف الأول الثانوي، حتى حين قبولي للسفر وإكمال الدراسة. هنا عشت تجربة فريدة ومختلفة، لأول مرة أدرس مع المبصرين ولا يوجد منهج خاص بلغة برايل، كانت مرحلة صعبة جدا بالنسبة لي وللمدرسين كذلك، اجتهدت كثيرا وكافحت، وأخواتي كن يقمن بتسجيل الدروس حتى أستطيع مراجعتها، فلم تكن أي وسيلة أخرى ممكنة للمذاكرة.  شاركت في أنشطة المسرح، والشعر، كنت بحاجة إلى أن أثبت وجودي في أي مجال متاح لي، شاركت في الأنشطة لإبراز هويتي وشخصيتي، كنت في تحدي مع نفسي ومع المجتمع.

أكملت العام الدراسي في السلطنة بنجاح ثم سافرت إلى السعودية لإكمال الصف الثاني والثالث الثانوي، التحقت بمعهد النور في الرياض. أنهيت الدراسة الثانوية بنسبة 94% ، حيث رجعت إلى السلطنة وانتهى الترحال. سجلت في برنامج القبول الموحد لإكمال الدراسات العليا، وتم قبولي في جامعة السلطان قابوس، بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية.

كمبيوتر الجامعة

بفضل الجامعة حصلت على كمبيوتر في السكن، حيث اجتهدت ذاتيا وقمت بتحميل برنامج قارئ الشاشة على جهاز الكمبيوتر، هنا في هذه الفترة بدأ التطور يظهر بشكل أكبر في مجال التقنية، وأصبحت مهووسا بهذه التكنولوجيا ومدمنا عليها، تعلمت بنفسي كل ما يتعلق بالإنترنت والإيميل والتصفح، حتى أصبحت أساعد الآخرين في التقنية. في عام 2009 ظهرت لدي بادرة لتأسيس منصة خاصة تجمع المكفوفين في العالم العربي، فأسسنا منتدى الإبداع، يشمل كافة قضايا المكفوفين بشكل عام، لاحظت أن المشاركات من عمان كانت قليلة، بسبب عدم توفر الوسائل وعدم دراية المكفوفين في السلطنة بالتقنيات الحديثة وتطوراتها، فقررت تحويل المنتدى حتى يكون خاصا لمساعدة المكفوفين في المجال التقني، وليصبح باسم “بلايند تك” ويكون موجها للعالم العربي، كنت المسؤول عن المنتدى من حيث الإشراف والتصميم وغيرها من الأمور الإدارية، حيث وظفت كل ما تعلمته بنفسي في هذا المنتدى، كان هدفي من خلال المنتدى هو إنشاء مجتمع نشط يقدم آخر الحلول التقنية للأشخاص المكفوفين غير القادرين للوصول إليها، ويكون مجتمعا يجمعنا لنساعد بعضنا البعض. في البداية كان للموقع صدى كبير في العالم العربي، وأصبح من المواقع المرجعية التي يلجأ إليها الناس من شتى دول العالم العربي، كبر المنتدى وأصبح يشمل أقسام متعددة، الكثير من المكفوفين يرجعون الفضل لهذا المنتدى في تعلمهم الكثير فيما يتعلق بالتقنية وتعرفهم على التكنولوجيا التي يمكن أن تساعد المكفوفين في استخدام الأجهزة المختلفة كالكمبيوتر والهواتف، كان هدفي إزالة الأمية التقنية عن الأشخاص المكفوفين بهذه الطريقة، ولله الحمد حققت الهدف الذي كنت أسعى إليه.

وفي خطى الشغف نحو التقنية تعاونت مع زملائي وقمنا بتأسيس شركة “رواد التقنيات المساعدة” هدفنا توفير منتجات خاصة للمكفوفين وضعاف البصر، نوفرها هنا في السوق العماني، لأنه لا توجد في السلطنة مؤسسة توفر هذه الخدمة، والمكفوفين بحاجة إلى جهة تزودهم بهذه الأجهزة، وأيضا على مستوى المؤسسات كذلك، فالتكلفة عالية عندما يقومون بجلبها من الخارج، الآن بدأنا في المشروع منذ أشهر قليلة فقط، لازلنا نواجه تحديات التأسيس في البداية.

علاج الصبر

رسالتي الأخيرة أوجهها للأشخاص ذوي الإعاقة، وأقول لهم كل شخص يواجه صعوبات في الحياة، والإعاقة أمر لابد أن يتعايش معه الإنسان ويجعله وقودا لمواجهة التحديات، فالاستعانة بالتقنية تساعدهم كثيرا في تخطي الصعوبات، ونحن بحاجة إلى الصبر لمواجهة المجتمع حتى يستطيع فهمنا وتقبلنا، فتوعية المجتمع والتعريف بقدرات ذوي الإعاقة هي مسؤوليتنا نحن لإيصال هذا الوعي، بالرغم من أن الوضع اختلف كثيرا الآن مقارنة بالأعوام العشر الماضية ولكن لابد لنا أن نتحمل المجتمع حتى يصلوا إلى الوعي الكافي حول كيفية مشاركتنا وتقبلنا في المجتمع بشكل أكبر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القصة كاملة في العدد القادم من مجلة “التكوين” الورقية، لعدد مارس الجاري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق