مقالات

المطرب الذي أعدمته نوايا غرفة النوم

منى المعولي

“‏لا يمكنك أن تجد السعادة وأنت غارق في حديثك عن الألم” هكذا قال سيغموند فرويد، وهكذا نحن المهوسون بالبحث عن المتاعب وقتل اللحظات، قد تخطؤنا الرصاصات الطائشة ولكن لا يخطؤنا الحزن، من يعلم كم مرة نجونا من الموت بسبب ألسنتنا؟!.
ربما من ضمن عاداتي السيئة الكثيرة، تلك العادة التي أتوقف فيها جامدة، حين ألامس موقفاً أو أغنية أو نصا عابراً،يستوطنني منه جرح ما، نعيش عصر التشيؤ،فالتكنولوجيا التي اخترعناها لخدمتنا وظفتنا هي الأخرى بحيث نكون تبعاً لها،نقتفي مكامنها ونسبر أغوار عوالمها، وكما يبدو أن روابط الشبكة العنكبوتية ماهي إلا فخ منصوب ليحرك قلقنا الوجودي الراكد في تجاويف العدم،كماء في سد قديم، كعمود إنارة وحيد في شارع مهجور، كتل صامد على شفا جرف، كأبسط الأشياء المنسية في دواخلنا تحركها رياح التفكير.
مصابة أنا بالأفكار اللحظية تلك التي تزور رأسي بلا أي مقدمات ولاحشو جاهز، أقلب المواضيع، باحثة عن شوارع بغداد وأجواء بغداد وأصوات بغداد وخباياها، وإن لم يكن الحدث أصلا مرتبطا ببغداد فيكفي أن أشم فيه رائحة العراق لأنسبه لعاصمة التاريخ.
بتسلسل أكتب في محرك البحث “أغاني عراقية قديمة”، فتتشعب السلاسل المترابطة وتتدفق الأسماء، حسين نعمة، ياس خضر، محمد جواد أموري، توقفت عند أغنية رائعة نتأت على وجه الشاشة، فيديو لمطرب مغمور لم أسمع به قط اسمه صباح السهل، لا أعلم لماذا شدني صوته فبحثت عنه، كان يصدح بأغنية جميلة “بلايه وداع مثل العود من يذبل بلايه وداع” “يا رخص العشق من ينشرا وينباع!”.
بحثت أكثر عن أغانيه، عن تفاصيله لأزداد يقينا من خلالها أن أجمل فعل نرتكبه في حق انفسنا هو الاحتفاظ بثورتنا لنا، وأفضل العلاقات هي تلك التي يكون فيها الإنسان رفيق نفسه، لم أكن أعلم أننا قد نصاب على مقتل وقد تتدلى حبال الموت على رقابنا حتى من بيوتنا ومن خلف جدراننا.. ومن أولئك الذين قد يشاركوننا هواء غرف النوم، كما فعلت زوجة المطرب صباح السهل التي سجلت سخطه وسيل الشتائم التي أغدقها الزوج على نظام صدام حسين وعلى فخامة الرئيس وابنه عدي وأوضاع الغلاء والمعيشة، حين تم القبض عليه وتوجيه تهمة الخيانة بالنوايا، طالبوه بالاعتراف فرد، نعم إنه صوتي ولكن هذا ما قلته في بيتي أمام زوجتي وفي غرفة نومي، حاول بعدها التماس الصفح قاذفاً اللوم على الكحول والثمالة ونفسيته المرتبكة؛ بسبب الظلم الذي ناله من المسؤولين في عمله الإذاعي، غير أن كل تلك التوسلات ذهبت أدراج التجاهل، وقد صادق الرئيس على قرار الإعدام، وخلال أيام معدودة تم تنفيذ الحكم فيه ورحل.
تبدأ حكايته حين عاد ثملا ذات ظلام إلى بيته وفي غرفة نومه الدافئة مع زوجة يبدو أنها كانت تبيت النية منذ زمن لإزاحته، لتظفر بالمنزل الذي كان يود المطرب أن يبيعه بسبب كثرة ديونه وشظف العيش، هذه المرأة التي تجاوزت كل الصفات الأدنى من الإنسانية استغلت حالة الثرثرة والفضفضة التي كان يسكب فيها صباح حنقه وبؤسه لتسلمه للمخابرات العراقية في عام 1993 نتج عنه حكم الإعدام الذي نفذ فيه دون أن يعلم أهله عن التفاصيل، إلا بعد سقوط نظام البعث والاطلاع على حيثيات القضية في الدواليب المغلقة.
اصفرت الأيام بالحزن وتضامن الصمت مع العجب، كيف لتلك المرأة التي كانت تندب وتلطم خدها يوم إعدام زوجها أن تكون سبباً خفياً في كل ما ناله!! فهل عاقبتها الأقدار والزمن على ما اقترفته؟! بما حدث لها فيما بعد! لانعلم، ولكن الحياة قصة فلسفية عميقة وتوازن الكون أحد جوانب حبكاتها، كان لهذه المرأة ولدا من زوج أخر قبل زواجها من الفنان صباح السهل، أتهم بقضية السطو المسلح وحكم عليه بالإعدام وكعادة الأزمان يستغل بعض النصابين الذين تسلطهم ظروف الإنسان وحاجته عليه، فأوهمها أنه يستطيع إنقاذ ابنها من حكم الإعدام بمقابل مبلغ لا تملكه، مما اضطرها لبيع البيت نفسه الذي وشت للاستيلاء عليه بزوجها، وقد ظفر المحتال بالمال وفر هارباً، و أعدم ابنها. فلا هي بالبيت ولا بالابن ولاهي براحة الضمير ويقال إنها أصيبت بجلطة على إثرها وماتت.
استحضرت مقولة محمود درويش “لا تكثروا الفضفضة فإنكم لا تدرون متى يخون المنصتون”، قد لايعاقب الإنسان على مايفعل فقط بل على ما لم يفعل.
يقول صدام حسين ” تعرفون شلون نتصرف ويى الخونةبالنوايا لاشيء غير السيف” أي أن حتى الثرثرة العابرة قد تفسر كنية مبيتة تعاقب عليها مع سبق الاصرار والتصيد..
” رحم الله المطرب العراقي صباح السهل وليتني تعرفت عليه في ظروف موت افضل من حكايته المأساوية”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق