مقالات

من رحم المعاناة يُولد الجَمال

خالد بن سليمان الكندي

 

قراءة في كتاب “السرد البوليسي في الرواية العربية، كتابة المحاكاة وكتابة الانزياح والتوظيف” لبلقاسم مارس.

بحثتُ عن أفضل صيغة تعبر عن حال الرواية البوليسية فلم أجد أفضل من القول السائر “مِن رَحِمَ المعاناة يُولَد الجمالُ”؛ لأنها فن لم يكن ليرى النور لولا تعقّد المدينة الحديثة، فزحامها الديمغرافي، وتنوعها العرقي والأنثروبولوجي، وتشابك وسائل اتصالها- أفرز ظواهر اجتماعية كانت سببًا للجرائم، مثل ظاهرة الإدمان على المخدرات والخمور، وتدهور العلاقات الأسرية، والبيروقراطية، ودفع إلى إنشاء نظام أمني هو جهاز الشرطة لإصلاح هذا الخلل، ومن ثَمّ جاءت الرواية البوليسية معبرة عن كل ذلك؛ كما يرى فرانسيس لاكاسان Francis Lacassin.

يمكننا أن نتفهم عناية الدراسات الغربية بهذا الفن الجديد، وإيمانها بأنه فرع من فروع الرواية يستحق الاهتمام الأكاديمي؛ لأن كل فن في الغرب لا ينشأ من رغبة محاكاة ثقافة أخرى –كما هي حال العالم العربي في تلهّفه لمحاكاة كل ما هو جديد صادر من الغرب- بل ينشأ من حالة سلوكية تسود المجتمع، أو فلسفة جديدة تجد من يؤيدها، أو ظرف ثقافي يعُمّ طائفة من المثقفين والكُتّاب، فينبري الأدباء والفنون للتعبير عن هذه الظاهرة بشفافية تسمح بها مجتمعاتهم الديمقراطية. وبتعبير عبد المنعم تليمة  في “مقدمة في نظرية الأدب”: ظهور جنس أدبي معين مرتبطة بمرحلة من مراحل تطور المجتمع، وحاجته العملية والروحية، ومُثُله العليا، وأفكاره وعلاقاته؛ إذ يظهر الجنس الأدبي وفاء بتحقيق هذه المتطلبات.

من أجل ذلك اجتهد بلقاسم مارس في كتابه “السرد البوليسي في الرواية العربية كتابة المحاكاة وكتابة الانزياح والتوظيف” في تفصيل نقاط الالتقاء والافتراق بين الرواية البوليسية الغربية والرواية العربية التي تحاول محاكاة الرواية البوليسية، لرفع مستوى الوعي الفني بهذا الجنس الروائي. وسعى إلى تبصير الناقد العربي بأهمية الالتفات إلى هذا اللون الروائي بعد أن أصبح نوعًا روائيًّا معترفًا به في الغرب. فالعالم العربي يتسم بالتقصير في حق الرواية البوليسية إبداعًا ونقدًا، وإن كان لا يعاني نقصًا في التلقي عند القُرّاء. وبهذه الدراسة يُخرج بلقاسم مارس الرواية البوليسية من تحت الأدب الموازي الذي يُنزِّلُها منزلة دون الرواية، ويدعو المؤسسة الجامعية إلى العناية بها بالنظر إلى خصائصها الفنية الدقيقة؛ لا بالنظر إلى قُرّائها الذين يقرؤونها وقت الاسترخاء لإمضاء الوقت.

قسّم بلقاسم مارس كتابه إلى ثلاثة أبواب، فكان الباب الأوّل هو الجانب النّظريّ، وهو في فصلين يتعلق أولهما بنشأة الرّواية البوليسيّة في الغرب، وعواملها، وأهمّ أعلامها واتّجاهاتها وخصائصها الأجناسيّة. وثانيهما بالرّواية العربيّة القريبة من الرّواية البوليسيّة أو الموظّفة لحبكتها؛ مع بيان منزلة هذه النّصوص في المدّونة الرّوائيّة العربيّة وفي مدوّنة النّقد الرّوائيّ العربيّ. وكان الباب الثّاني والثّالث الجانبَ التّطبيقيّ، فاهتم الباب الثاني بنماذج من الرّوايات التي جُنّست على أنّها روايات بوليسيّة، وعُنِي الباب الثّالث بالنّظر في الرّوايات العربيّة التي تستثمر الحبكة البوليسيّة دون نيّة كتابتها.

قبل بلقاسم مارس قدّم عبد القادر شرشار دراسة أرجع فيها سبب تخلف العرب عن تمثل النموذج الغربي في الرواية البوليسية إلى القمع السياسي الذي لم يسمح بولادة جهاز شرطي صادق يحاكم المجرمين، ويفضح الفاسدين، ويسمح للمبدع بالاطلاع على تحقيقات جنائية ذات شفّافية عالية؛ لكن عبدالقادر شرشار لم يُعْن بمواطن الاقتراب والابتعاد بين الرواية العربية والرواية الغربية النموذجية.

واقتصر محمد الباردي على وجوه الشبه بين الرواية المصرية الحديثة والرواية الفرنسية الحديثة شكلًا ومضمونًا، وخلص إلى أنه لا توجد رواية بوليسية عربية التزمت كل الخصائص الضرورية للرواية البوليسية بمفهومها الغربي؛ بل تحاول الروايات العربية المحاكية تطعيم نصها ببعض عناصر الرواية البوليسية الغربية، مثل تفصيل حدوث الجريمة، وبيان الملابسات المعينة على التحقيق، وحل ألغاز الجريمة، والقبض على الجاني. ومثّل لهذه المحاولات بروايات نجيب محفوظ مثل “اللص والكلاب” و”الطريق”، وروايات يوسف القعيد مثل “الحرب في بَرّ مصر” و”يحدث في مصر الآن”.

ووقف شعيب حليفي على بعض نقاط الالتقاء بين الرواية البوليسية الغربية والرواية العربية المحاكية لها، مثل طرائق التّخييل ولغة التّشويق، وأبان عن مفارقة الإنتاج والتلقّي في الرّواية البوليسيّة العربيّة، وذكر تخلف العرب في ركوب مركب فنّ الرّواية البوليسيّة حتى عن الدول المغمورة مثل: بولندا ، والمكسيك ، وأفغانستان ، وأذريبجان.

أما عبد الرحمن فهمي فدعا إلى أن نعيد النّظر في موقف النقد العربي من الرّواية البوليسيّة، وأنْ نُثبت أنّ هذا الجنس الرّوائيّ الفرعيّ لا يمكن أنْ يكون إلاّ رواية، واعتبر الإثارة سمة مقصودة في الرّواية البوليسيّة أكثر من أي جنس روائي آخر. ودعا إلى الإعلاء من قيمة الرواية البوليسية، وضرورة تدبّر طرائق تشكيلها، والاستفادة منها على سبيل المحاكاة وكتابة الانزياح والتّوظيف.

إن الرواية جنس حواري يركز على البحث عن الفضيلة في مجتمع متدهور، ويميل إلى الرؤى الذاتية الرمزية، ولا يزال يتطور عبر إحْداث نقلة نوعيّة في الكتابة الإبْداعيّة عبْر مُغامرة التّجريب وآلياته، والتعبير عن المألوف بغير المألوف بخرق السائد في الشكل والمضمون، والاستفادة من التَّقانة داخل فضاء المدينة الحديثة وقضايا المستقبل، والانفتاح على فنون القول، وأجناس الأدب، والخطابات المتنوعة المشارب والمصادر مثل الرّسم والشّعر والملْحمة والفُنون التّشكيليّة والتّحقيقات البوليسيّة، ويتميز القص -سواء كان قصة أو رواية- بوحدة الحدث في الحبكة، ومعناها أن القصة/الرواية لا تتحدث عن مدة زمنية التقت فيها شخصيات عَرَضَا ووقعت لها أحداث متفرقة؛ بل تتحدث عن حدث واحد ينتظم الحبكة تكون له بداية ووسط ونهاية، فالحبكة هي ترتيب الأعمال اللغوية المنجزة داخل وحدة الحدث.

وأما الرواية البوليسية بمفهومها الغربي فثمة خلاف في مؤسسها، وخصائصها، وأنواعها. فعلى مستوى التأسيس يميل بعضهم إلى اعتبار الأمريكي إدجار ألن بو Edgar Alan Poe  من خلال روايته “جرائم شارع مورغ” المنشورة في مجلّة غراهام سنة 1841- مؤسس الرواية البوليسية، فقد ظهر في روايته المخبر المشهور أوجيست دوبان. ويميل آخرون إلى أنّه اقتبس فكرة الرواية البوليسية من أعمال سبقته مثل مؤلَّف فولتير Voltaire، ولكن الذي رسّخ هذا الفن في أوروبا واشتهر به أكثر من آلن بو لكثرة كتابته فيه- هو الأديب البريطاني كونان دويل Arthur Conan Doyle (1859م – 1930) الذي كتب أربع روايات بوليسيّة وستّا وخمسين قصّة قصيرة كان بطلها “شارلوك هولمز” “Sherlock Holmes”.

وأما الخصائص التي تتسم بها الرواية البوليسية -بمفهومها الغربي- وتجعلها جنسًا أدبيًّا متميزًا عن سائر الأجناس؛ فَعَرَضَتْها مقاربات كثيرة عربية وغربية ذكرها بلقاسم مارس، وسأتجنب هنا الطريقة التي سلكها بلقاسم مارس في عرض هذه الخصائص وفق أصحاب هذه المقاربات وآرائهم، وأميل إلى تصنيف الخصائص تحت خمس مقولات:

  • مقولة الوِحْدة: وهي المقولة التي تهتم بالموضوعات التي تتصف بأنها كلّ له أجزاء، فمن الوحدات التي توجد في الرواية البوليسية: الضحية، والمجرم (أو المتهم)، والمحقق (أو الشرطة)، والمدينة، والطبقة البرجوازية، والمؤسسة القضائية، والأشباح.

  • مقولة الحدث: وهي التي تهتم بأفعال الوحدات، فمن الأحداث التي يمكن أن نجدها في الرواية البوليسية: القتل، التحقيق، كتابة التقرير، البحث عن المجرم، تعاطي المخدرات، الاغتصاب، التجسس،وحل اللغز، تعرّف المجرم، الدفاع عن القانون، خداع القارئ في توقع المجرم، المغامرة، العقاب، تفاجؤ القارئ.

  • مقولة الحالة: وهي التي تهتم بالهيئات التي تظهر عليها الوحدات بعد كل حدث أو قبله أو أثنائه، وبالكيفيات التي تتصف بها الأحداث، فمن الحالات التي نجدها في الرواية البوليسية أن تتصف أحداث الجريمة بالغموض، والحبكةُ بالترابط العقلي، والمحققُ بعدم قبول المسلَّمات والحلول السطحية وذلك لتحقيق عنصر المفاجأة، ومن الحالات أيضًا حالةُ الضحية بعد قتلها لأنها خيط من خيوط الحل، وحالة الشخصيات التي تثار حولها الشبهات لخداع القارئ.

  • مقولة الوجدان: وهي المقولة التي تهتم بما تفكر فيها الوحدات وتشعر به، فمن الوجدان الذي نجده في الروايات البوليسية: الدافع إلى الجريمة أو نزوات المجرم، والشعور بالذنب، وخوف الضحية، ورعب القارئ، واعتقاد المحقق بضرورة إحقاق العدالة، والحياد الأيديولوجي للكاتب، والذكاء في التخطيط، وتفكير القارئ في الحل، وقصدية الكاتب، وتخيُّل ما هو مخفيّ وغير متوقع، وتشوّق القارئ، والجهل بكل الملابسات لضمان التعمية.

  • مقولة العلاقة: وهي المقولة التي تهتم بالاستلزام الذي يتوصل إليه العقل بين طرفين حين يدرك أن لكل من الطرفين وظيفة لا تُفْهَم إلى بوجود وظيفة الطرف الآخر، وتكمن أهمية هذه المقولة في إيجاد العلاقة بين كل نوعين من أنواع المقولات الأربع السابقة، وإيجاد العلاقة بين أنواع من مقولة واحدة. والعلاقاتُ التي تهتم الروايات البوليسية بإيضاحها وتغذيتها لإثارة التشويق هي: علاقة المخاتلة بين الكاتب المخاتِل والقارئ المخاتَل، وعلاقة المطاردة بين المحقق المطارِد والمجرم المطارَد، وعلاقة العَدَاء بين المجرم المعتدي والضحية المعتدى عليها، وعلاقة المخاطرة بين البطل المغامر وموضوع مغامرته.

إن توزيع عناصر الرواية البوليسية عبر هذه المقولات يكشف -حسب رأينا- سبب الإشكالات التي واجهها منظّرو الرواية البوليسية في تعريف الرواية البوليسية ومِن ثَم تصنيفها إلى أنواع، فالذين قسّموا الرواية البوليسية إلى رواية جريمة ورواية مغامرة نظروا إلى حدثين هما ارتكاب حدث جنوح شخصية على حق شخصية أخرى، وحدث إلقاء البطل نفسه في مواقف خطرة أو مجهولة، فأما الجريمة فهي مفهوم خاص ينضوي تحت مفهوم أعم -هو الجنوح- يشمل أحداثًا أخرى مثل الانتحار والإدمان على الخمر؛ فإن هذين الحدثين جنوح من الشخصية على نفسها لا على شخصية أخرى، وأما السرقة والاغتصاب وترويج المخدرات فهي جرائم لأنها جنوح من وِحْدة على وِحْدة أخرى. وأما النوع الثاني -وهو المغامرة (الارتماء في المخاطر)- فهو مفهوم عامّ يندرج تحته أحداث أخرى أخص مثل التجسس، والدخول إلى بيوت الأشباح، واكتشاف الكهوف التي تدور حولها الخرافات. فكيف نقبل تصنيفًا أفرز مفهومين متضادين أحدهما عام لم يُراعَ فيه خواصُّه والآخر خاص لم تُراعَ كُلِّيتُه؟

وحفل كتاب بلقاسم مارس بمقاربات متعددة لتقسيم الرواية البوليسية إلى أصناف، وأهم هذه المقاربة تلك المقاربة التي قسّمت الرواية البوليسية إلى ثمانية أقسام:

1) الرّواية البوليسيّة التّقليديّة النّموذجيّة: هي التي تلتزم بترتيب حلقات السرد (التوازن، الاضطراب، الاختلال، معاكسة الاضطراب، الإصلاح)، فهي قائمة على العلاقة السببية والزمنية بين أحداثها، فتبدأ بأحداث عادية، ثم حدث الجريمة، فحدث التحقيق، فحدث المطاردة، ثم حدث كشف السّر، ثم حدث العقاب. ويكون الوجدان الذي يصطحبه الكاتب طوال السرد هو موقف الحياد، وتتصف هذه الرواية بحالة الخلو من التّحليل النّفسيّ، ومن الخطاب العاطفيّ، ومن الحذلقة اللّغويّة.

2) رواية الجاسوسية: التي تُعنى بأحداث الصراع بين وحدتين هما دولتان، أو معسكر الرأسمالية ومعسكر الشيوعية.

3) رواية اللغز: تتميز بوحدةٍ مُحقِّقٍ متصف بحالة الإصرار على تفسير حدث؛ معتمدًا على حالات يتعقُّبها واقعة على وحدات -شخصيات- وتقوده هذه الحالات في النهاية إلى وحدة هي المجرم.

4) رواية الرعب: تتضمن وحدتين -شخصيتين- إحداهما تتصف بحالة الطغيان والأخرى بحالة الضعف؛ مع ممارسة الوحدة الطاغية لأحداث القسوة أو الإفزاع، وقد تتصف الوحدة القوية بحالة الشبحية، في حين تتصف الوحدة الضعيفة بحالة الإنسانية.

5) رواية المفاجأة: تقوم على أساس أن وحدة القارئ في حالة انخداع بأحداث تتصف بالحالة العادية؛ حتى يقع في آخر الرواية حدث يصيب القارئ بحالة التفاجؤ، ذلك لأن الأحداث العادية ما كانت تربطها علاقة سببية في وجدان القارئ، وإنما يكتشف وجدانُه العلاقة السببية بينها بظهور الحدث المفاجئ.

7) رواية الجريمة: تتضمن حصول حدث يُصنَّف بأنه جريمة (اعتداء على الآخر)، وفيها وِحْدات متعددة منها المحقق ومنها المشتبه فيهم، وتتصف الأحداث التي يمارسها المحقق ويمارسها المشتبه فيهم بحالة الترابط العقة الي، وتنتهي بحدث القبض على وحدة المجرم.

8) رواية المخبر السري: هي نوع من قصّة الجريمة؛ لأنها تركز على حدث القتل، وتختلف عن الرّواية البوليسيّة التّقليديّة بأنها تبدأ بحدث القتل ولا تلتزم بحالة التسلسل الزمني والسببي بين أحداثها كما في الرواية التقليدية، ويكون التركيز في رواية المخبر على حالة العزيمة عند المخبر للوصول إلى حدث حل اللغز، وتكون العلاقة بين حدث كشف الحقيقة وبقية الأحداث هي حالة الحدث المتأخر في مقابل الأحداث المتقدمة. وتعمد رواية المخبر السري على حدث إثارة وجدان القارئ بالتفكير في الحل، وتكون علاقة القارئ بالمحقق علاقة المتسابقين اللذين يحاول كل منهما أن يسبق الآخر في حل اللغز.

إن هذه الأقسام الثمانية وغيرها -من مقاربات تقسيم الرواية البوليسية إلى أنواع- يمكن اختبار دقّتها العلمية حين نراعي الضوابط التالية:

  • قبل تقسيم أي موضوع لابد من ذكر زاوية النظر التي ينظر من خلالها المقسِّم، ونحن حين نطرح فكرة المقولات الخمس (الوحدة، الحدث، الحالة، الوجدان، العلاقة) نَعُدّ كل واحدة منهن زاوية نظر يمكن الأخذ بها أو الأخذ بعدة زوايا/مقولات. ويمكن لغيرنا أن يتبنى تصنيفًا آخر لزوايا النظر مثل مقولات أرسطو العشر أو غيرها. المهم أن يُفصح المقسِّم للروايات البوليسية عن المقولات التي يعتمدها قبل تقسيمه. وبدون هذا الاعتماد يقع المقسِّم في الخلط بين الأنواع، ويشعر المتلقي لتقسيمه بعدم استفادته من هذا الجهد الضائع؛ بسبب عدم وجود حدود واضحة بين الأنواع.

  • عند تبني زاوية نظر واحدة أو اثنتين يجب أن تسري هذه الزاوية أو الزاويتين على كل الأنواع الناتجة عن التقسيم، فلا يصح -مثلًا- أن يكون النوع الأول من الروايات البوليسية مبنيًّا على مقولة الوحدات؛ في حين تكون بقية الأنواع مبنية على مقولة الأحداث.

  • إن مقولة العلاقات مقولة مهمة لا غنى عنها في أي تصنيف؛ لأنها تُعلِّمنا أن ذكر أي مقولة (وحدة أو حدث أو حالة أو وجدان) يستدعي كل المقولات التي لها علاقة مع هذه المقولة، سواء كانت علاقة تصنيفية (بين العام والخاص)، أو علاقة تكوّنية (بين الكلّ والجزء)، أو علاقة تركّبية (بين العنصر والمركب)، أو علاقة الإحداث (بين المحدِث والحدث)، أو علاقة التأثير (بين الحدث وما يقع عليه)، أو علاقة التمكين (بين المحدِث والمتأثر)، أو علاقة التموقع (حيِّز يحتاجه حدث أو وحدة لتحقيق وجوده، وترتيب بين حدثين أو وحدتين داخل حيِّز)، أو العلاقة التزامنية (اقتران وحدات بحدث مع علاقة تموقعية بين هذه الوحدات ثم انتهاء الحدث)، أو علاقة الاستعانة (بين الفاعل والأداة التي يحتاجها لتنفيذ حدثه).

  • إذا لم تستطع المقولات إخضاع كل أنواع الموضوع الذي تريد تقسيمه فهذا يعني واحدًا من اثنين: إما فساد المقولات لأنها لم تُبْنَ على آلية قادرة على استيعاب كل الأنواع الخاصة المندرجة تحت كلي عام، وإما فساد الأنواع لأنها لا توجد بينها مقولات مشتركة.

ونرى أننا نستطيع تقسيم الرواية البوليسية تقسيمات مختلفة؛ على أن نعتمد في كل تقسيم على زاوية نظر/مقولة محددة، على النحو الذي يظهر من الطرائق التالية:

الطريقة الأولى: أن نقسم الرواية البوليسية إلى أقسام بحسب العلاقة الترتبية بين أحداث الرواية، وعندئذ ينشأ قسمان رئيسان:

  • روايات بوليسية تحافظ على تسلسل حلقات السرد: الاتزان والاضطراب والاختلال ومعاكسة الاضطراب والإصلاح.

  • روايات بوليسية لا تحافظ على هذا التسلسل بل تكون فيها بعض الأحداث في حالة استباق أو حالة ارتداد.

الطريقة الثانية: أن ننظر إلى نوع الحدث الذي يسبب حالة الإثارة والتشويق عند القارئ، وعندئذ نقسِّم الروايات البوليسية إلى صنفين:

  • روايات بوليسية تتضمن جُنُوحًا من وحدة على نفسها كما في روايات الانتحار والإدمان على الخمر، أو جنوحًا من وحدة على أخرى كما في روايات القتل والسرقة والاغتصاب.

  • روايات بوليسية تتضمن مغامرة أي إلقاء الذات نفسها في مجهول، كما في روايات الجاسوسية.

الطريقة الثالثة: أن ننظر إلى الحالة التي تتصف بها الوحدات التي تثير الاضطراب؛ فنقسّم الروايات البوليسية إلى نوعين:

  • روايات الرعب؛ لأن المثير لحدث الاضطراب فيها هو الأشباح.

  • روايات الغموض (الجنوح والمغامرة)؛ لأن المثير لحدث الاضطراب فيها هم البشر.

الطريقة الرابعة: أن ننظر من زاوية الوحدة المسؤولة عن حل اللغز؛ فنقسّم الروايات البوليسية إلى:

  • روايات التعقُّب؛ لأن المسؤول فيها عن حل اللغز سلطة رسمية تتمثل في المحقق أو المخبر السري أو الشرطي أو صائد الجواسيس.

  • روايات التحليل؛ وهي التي تعتمد على شخصيات غير رسمية في حل اللغز مثل المغامرين.

ولا أريد الإطالة هنا في عرض زوايا نظر كثيرة، فالعبرة هنا بذكر الآلية التي تُسعفنا في تقسيم أي موضوع إلى أنواع وفق مقولات واضحة لا تسمح بخلط الأوراق وتداخل الأنواع.

وثمة إشكال آخر كبيرة حاول بلقاسم مارس تبني رأي فيه، وهو تعريف الرواية البوليسية تعريفًا يناسب التوجه الغربي؛ ليميز بين الروايات العربية البوليسية والروايات العربية ذات الإيقاع البوليسي التي لا ينطبق عليها مفهوم الرواية البوليسية، وكانت المقاربات التي قدّمها النقاد في تعريف الرواية البوليسية وعَرَضَها بلقاسم مارس- تختلف في العناصر التي يجب وجودُها في النص الروائي حتى نعتبرها رواية بوليسية، ولسنا في مقام عرض كل تلك المقاربات التعريفية والعناصر التي اشترطت وجودها في الرواية؛ لأننا ذكرنا هذه العناصر عند حديثنا عن الخصائص التي تتسم بها الرواية البوليسية وتميزها من سائر أنواع الروايات،  فقد وزّعنا هذه الخصائص تحت مقولاتنا الخمس (الوحدة، الحدث، الحالة، الوجدان، العلاقة)، وإنما الذي يشغل بالَنا الحديث عن الآلية التي ينبغي أن يسلكها أي متخصص حين يَرُوم تعريف موضوع، أو رسم حدود واضحة لمفهوم مصطلح في مجاله.

في البداية علينا أن نعترف أن مصطلح “الرواية البوليسية” مصطلح مخاتل ما كان ينبغي اختياره؛ لأنه غير قادر على تمثيل أنواع من الرواية البوليسية ليس لها علاقة بالبوليس، مثل روايات الرعب، وروايات المغامرة، وروايات التجسس، ولكن لأن مصطلح الرواية البوليسية استقر بفضل قانون التردُّد –تكرار لفظه داخل الكتاب الواحد المتخصص في السرد، وبفضل قانون الشيوع –اتفاق معظم المختصين بالسرد على تداوله في دراساتهم- فإننا مُكْرهون على قبوله الآن ما لم تحدث مؤتمرات عربية تنجح في استبعاده، أو تتدخل سلطة قاهرة قادرة على إقناع النقاد العرب باختيار مصطلح آخر غيره أكثر شمولية وأدق دلالةً.

وهنا ننتقل من مشكلة المصطلح إلى مشكلة مفهومه، فإنّ الذين أشاعوا مصطلح “الرواية البوليسية” لا يزالون مختلفين في الاتفاق على مفهوم محدد؛ لأن هذا الجنس السردي لا يزال حديثًا في دراساتنا العربية؛ بل إنه لا يزال يعاني الإقصاء على يد المؤسسات الأكاديمية كما أوضحنا. ولأجل ذلك علينا أن نقدم آلية لحل مشكلة تحديد مفهومه.

إن أي تعريف للرواية البوليسية يجب أن يراعي الأمور التالية:

  • أن يُقدِّم الحدّ الأدنى من العناصر التي يجب وجودها في الرواية حتى تُعَدّ رواية بوليسية.

  • أن تكون العناصر عبارة عن مقولات مصنفة وفق نظرية توضِّح الفروق بين هذه المقولات توضيحًا مبنيًّا على أسس علمية مفصلة، وتقدِّم هذه النظرية آلية لاشتغال هذه المقولات.

  • أن تكون تلك العناصر مقولات تخص الرواية البوليسية خصوصًا ولا تخص الرواية عمومًا.

  • أن تكون تلك العناصر مقولات ضرورية لا يجوز أن يخلو منها أي نوع من أنواع الرواية البوليسية.

  • أن تكون بعض تلك العناصر مقولات مشتركة بين الرواية البوليسية وبعض أنواع الروايات، وليست مقولات مشتركة بين كل أنواع الرواية.

  • أن تكون بعض تلك العناصر مقولات لا توجد إلا في الرواية البوليسية؛ لكي نميزها من سائر أنواع الروايات.

  • لا يجوز الموافقة على أي نوع من أنواع الرواية البوليسية إلا إذا كانت فيه مقولة إضافية واحدة أو أكثر لا توجد في غيره من أنواع الرواية البوليسية.

وبناء على هذه الضوابط نحتاج إلى ثلاث خطوات:

في الخطوة الأولى نقدم المقولات الضرورية التي لا تخلو منها أي رواية.

في الخطوة الثانية نقدم المقولات التي لا تُفْلِتُ منها أي رواية بوليسية.

في الخطوة الثالثة نقدم لكل نوع من أنواع الرواية البوليسية مقولاته التي لا توجد في غيره من أنواع الرواية البوليسية.

لا شك أن القارئ لهذه المقالة ينتظر مني الآن أن تتحول مقاربتي النظرية إلى تطبيق عملي يثبت نجاعتها، فلا قيمة لنظرية لا يمكن تطبيقها. وأنا أوافقه الرأي، ولكن هذا التطبيق محتاج أولًا إلى تمهيد نظري مفصل لمقاربة المقولات الخمس، وكيفية اشتغالها، وهو أمر لا تتحمله مساحة هذه المقالة، لأن هذه المقولات الخمس جزء من نظرية مفصلة أطلقت عليها اسم “نظرية السبر”، وسترى النور قريبًا مع تطبيقاتها في مؤلَّف قادم بعون الله. وإنما المهم الآن أن ألفت النظر إلى أن الخوض في إشكال المصطلحات ومفاهيمها، سعيًا لحلها- لابد أن يتسلح بآلية ذات مصطلحات واضحة المفاهيم، ومنهج علمي سليم، وإجراءات تطبيقية تقود إلى حلول مقبولة.

ينبغي هنا أن نذكر أن “س. فان دين” (S. Van Dine ) وضع عام 1928 عشرين معيارًا لتحديد مفهوم الرواية البوليسية، واختصرها تودروف في سبعة: 1.يجب أنْ تحتوي الرّواية في الأكثر على محقق واحد وجان واحد، وفي الأقل على ضحية واحدة (جثة).2.يجب ألا يكون الجاني مجرمًا محترفًا، وألاّ يكون المحقّق؛ ويجب أنْ يقتل لأسباب شخصيّة. 3.الحب ليس له مكان في الرواية البوليسيّة. 4.يجب أنْ يحظى الجاني بأهمية ما، ففي الحياة يجب ألاّ يكون من الخدم. .5.يجب أنْ يفسَّر كلُّ شيء تفسيرا عقلانيّا فلا مكان للعجائبيّ. 6.لا مكان للوصف أو التّحليل النفسيّ. 7.يجب مناسبة المعلومات عن الشخصيات وأوصافها لمقامات هذه الشخصيات. 8. يجب الابتعاد عن الوضعيّات والحلول السّاذجة.

إننا نذكر مقاربة تودروف المختصرة لمعايير س. فان دين لنوضِّح أمثلة من المقولات التي لا ينبغي اعتبارها حدودًا ضرورية لتعريف الرواية البوليسية؛ فوجود تحليل نفسي قد يكون إحدى طرائق الشرطة للوصول إلى المجرمين عبر ملاحظة السلوك المتكرر للمجرم، وتضييق دائرة الاشتباه لتكون حول شخص بعينه، وتوقع ضحاياه القادمين لعمل كمين له.

ويرى بعضهم أنه لا يمكن تصنيف رواية بأنها بوليسية لمجرد احتوائها على قاتل، وجريمة قتل، وشرطة، وتحقيق، وإنما ينبغي العناية بعلامات أخرى: 1) قصدية الكاتب بأن يجعل روايته بوليسية. 2) الإثارة والتشويق أي التخييل القائم على خلق علاقات منطقية. 3) أن تبنى حبكتها على إظهار حلول سهلة تبدو من أوّل وهلة مغريّة، غير أنّها تتكّشف عن زيفها واحدًا تلو الآخر. ومن جانب آخر هناك حلّ غير محتمل سيكون هو الحل الحقيقي. أو تُبنى الحبكة على معرفة وقوع جريمة، وعدم اقتناع المحقق باتهام الشرطة لمجرم، ومع تحرياته يكتشف خيوطًا جديدة، ويظل المحقق والقارئ جاهلين بالمجرم الحقيقي حتى تنتهي باكتشافه.

وهذا التعريف نموذج لأمثلة التعريفات التي تساعد على إدخال أنواع الرواية البوليسية التي من نوع روايات المغامرة، وروايات الرعب.

اجتهد بلقاسم مارس في توسعة اطلاعه على النصوص العربية التي اقتربت بنيتها ونظام الأحداث فيها من الرّواية البوليسيّة الغربيّة، واستلهمت مكوّناتها واستعارت حبكتها، وحفلت بالمحكي البوليسيّ الذي ينفي عن الرواية البوليسية صفة الوضاعة والرّخص ويُلحقها بمصاف الآداب الرّفيعة، ثم قسّمها إلى نوعين:

  • محكيّ بوليسيّ خالص جنّست نصوصه على أنّها روايات بوليسيّة تقوم بدورها على لغة التّشويق والتّركيز، مثل “رأفت الهجان” لصالح مرسي، و”من قتل ليلى الحايك” لغسان كنفاني، و”الاختفاء الغامض” لنبيل فاروق، و”الحوت الأعمى” لميلود حمدوشي وعبد الإله الحمدوشي. إنّ هذه الرّوايات تحترم قواعد التأليف في القصّ البوليسيّ كما وضعها منظّرو الرّواية البوليسيّة الغربيّة على شاكلة ما أورده “تودوروف” في نقاطه الثّماني المختصرة.

  • روايات تستثمر الحبكة البوليسيّة دون نيّة كتابتها، فهي تفتقر إلى القصديّة، والقصدية ميثاق بين الكاتب والقارئ، فهذه الروايات تعتمد على بعض عناصر الرّواية البوليسيّة شكلاً ومكوّنات دون أنْ تكون ملتزمة بها؛ أي أنّها استفادت من إيقاع الرّواية البوليسيّة دون أنْ تكونها، ومن أمثلة هذا النّوع “الوجوه البيضاء” لإلياس خوري، و”وقائع حارة الزّعفرانيّ” لجمال الغيطاني، و”يحدث في مصر الآن” و “الحرب في بر مصر” ليوسف القعيد، و “المؤامرة” لفرج لحوار.

وفي الأخير أقول إن كتاب بلقاسم مارس جهد كبير، حافل بجوانب مهمة وكثيرة في شأن الرواية البوليسية، وهو خطوة جريئة لتصحيح النظرة الدونية التي ينظر بها النقاد والمثقفون العرب إلى الرواية البوليسية، وربما تكون خطوة لتصحيح أمثلة أخرى من النظرات الدونية لآداب تحتاج إلى من يحتفل بها؛ لأن الأدب إذا وصل إلى حدّ النضج الفني، ووعي الكُتّاب بحدوده، وصارت له خصائص تميزه، ورسالة إنسانية هادفة، فإنه لا يصح تهميشه بحجة أن متلقّيه ليسوا من النقاد أو المثقفين، أو بحجة أن المؤسسات الثقافية لم تحتفِ به دراسة وقراءة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق